يصدق على ما بعد الموت قولهم : إنه لا نقطة وسط بين الجنة والنار ... أما الحياة فلها نواميسها الخاصة، وقواعد متخصصة تحكم تلاطم بحرها العميق الذي تخشى مواكبه الرياح. قد يتوق الشوق إلى ما يتوق، وقد يولّى ويروح، قد يشقى القلب، وقد يحج ويستريح، قد ينتعش الحب، وقد تهزمه الهزات والارتدادات . في الحياة فصول متلاحقة متشابكة لكنها مختلفة في طقوسها، في أجوائها، في ثمارها ومحاصيلها، وكل حراك فيها له تناص وعلاقة وطيدة وزبد يُفرز عن مخاضه الدائم المستمر . في الحياة رحاب شاسعة بين الفرح والقرح واسعة بين السعادة والبؤس، بين الانتصار والانكسار، بين لوعة الفراق وحبور التلاقي، تطيش النفس الإنسانية في الحالة الأولى، وهي تحس ساعتها أنها وضيعة حقيرة لا سند لها ولا ناصر ولا نصرة لا حامي لها ولا هي محمية، فتذرف دموعا حرّى تعتصرها مآسي الحياة لعلها تشفي الغليل، وتريح من الأناة، وتعيد العبرات إلى مآقيها والزفرات إلى مآويها . تهدأ النفس وتطمئن مع الحالة الثانية، فيطيب لها المقام، وتطلق بدل الدموع زغاريد، وبدل التأوه والآهات تصفيقات وأماني وآمال بخيال جياش لا حدود له من التفاؤل في تحقيق المآرب والنجاحات . بين هذا وذاك من دروب الحياة توجد نقطة وسط، فالعائلة التي لا مترشح لها في امتحان شهادة نهاية الدروس الثانوية هي نقطة وسط لا تبالي بما يجري حولها، إذ يتساوى عندها النجاح من عدمه . أما تلك التي تنتظر بشغف، بقلوب تبلغ الحناجر، بأرواح منقبضة ونفوس تُعتصر وأجساد فقط تتحرك لكن لا تدري إلى أين ! ما أصعب الانتظار، وأصعب ما فيه الساعات الأخيرة التي تؤجج حريقا في الأحشاء، التهابات في الأعضاء، خفقانا في الأفئدة، ارتعاشا في الأطراف، ذبولا في الأجفان، انسداد الشهية عن ما لذّ وطاب، إنها لحظات منغصات الحياة وعيف نعيمها. وما تفتأ المفاجأة تفرّق الحشد المنتظر إلى معسكرين، واحد تغمره السعادة إلى درجة الإغماء، وآخر تهز أركانه التعاسة والشعور بالإهانة إلى درجة الجنون والخروج عن المألوف، أما من لا – بكالوريا – له لا هم له بالفرح، ولا شغل له بالحزن والأسى. سقط عليها نبأ الرسوب كالصاعقة، فأحست بالمهانة، والعطب والخذلان، ولم يسعفها ما تبقى من قواها أكثر من أن تنظر إليّ بعيون ذبلت في حينها وبانهيار عصبي أصابها في كل جسدها . أن تقول : بصوت خافت بنيتي " ما نجحتش كذبوا علينا، وأجهشت ببكاء هادئ صامت موسوم بملمح صمتها الذي ظل طول العمر منقوشا على محياها يزين طبيعتها. لكن فضحه ما انبعث من دخان شموع الاحتراق ومرارة الخبر المزلزل الذي لم يبق ولم يذر في بدن تهالك للتو وصار في حاجة عاجلة إلى النجدة والإسعاف . لم أكن أقل منها حسرة ولوعة، إنما حاولت أن أكون أشد منها قوة وبأسا، وأظهرت ما ليس في داخلي من شجن ومن لهيب الأبوة الحنين الذي لا يفكر في عقبات الرسوب وأوجاع الامتحان ومواجعه إلا بعد الخسارة في شهادة البكالوريا التي لما اطمأننت على الباكية عليها في الغد عليها بكيت، إنها عتبة التخطي والتحدي إنها شهادة البكالوريا ... !؟