حوادث المرور: وفاة 44 شخصا وإصابة 197 آخرين خلال الأسبوع الأخير    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    ملابس جاهزة: اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    جامعة بجاية، نموذج للنجاح    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    قسنطينة: افتتاح الطبعة الخامسة للمهرجان الوطني "سيرتا شو"    الطبعة الرابعة لمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي : انطلاق منافسة الفيلم القصير    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    وزير النقل يؤكد على وجود برنامج شامل لعصرنة وتطوير شبكات السكك الحديدية    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    بطولة وطنية لنصف الماراطون    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع أبراج    الجزائر تحيي اليوم العربي للشمول المالي    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر المصري شريف الشافعي في حوار للنصر بعد ديوانه الجديد "غازات ضاحكة"
نشر في النصر يوم 12 - 03 - 2012

الشاعر المجدد هو الذي ينقّي "المادة الفعالة" في "وصفة الشعر"!
• الالتفات النقدي إلى تجربتي أخصب وأوسع خارج مصر
شريف الشافعي شاعر من مصر، له في الشعر خمسة دواوين، أحدثها "غازات ضاحكة" الصادر منذ أسابيع قليلة عن دار الغاوون في بيروت في قرابة ستمائة صفحة، وهو الجزء الثاني من متتالية شعرية بعنوان "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، صدر أول أجزائها "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" خلال الأعوام الثلاثة الماضية في ثلاث طبعات عربية بمصر وسوريا، وتمت ترجمته إلى الإنجليزية، واختير للتدريس لطلاب جامعة "آيوا" الأمريكية وجامعة الكويت باعتباره "نموذجًا متميزًا لقصيدة النثر العربية ". للشافعي، المولود في مدينة منوف بدلتا مصر عام 1972، قبل تجربة الإنسان الآلي دواوين: "بينهما يَصْدَأُ الوقتُ" (1994)، و"وَحْدَهُ يستمعُ إلى كونشرتو الكيمياء" (1996)، و"الألوانُ ترتعدُ بشراهَةٍ" (1999)، وله كتاب بحثي بعنوان "نجيب محفوظ: المكان الشعبيّ في رواياته بين الواقع والإبداع" (الدار المصرية اللبنانية، 2006). وهو يعمل صحافيًّا في مؤسسة الأهرام بالقاهرة منذ عام 1996، وسكرتير تحرير مجلة "نصف الدنيا" الأسبوعية، وقد حصل على إجازة في فبراير 2007، منتقلاً إلى مدينة الْخُبَر السعودية، التي يقيم فيها حاليًا، حيث يُسْهِمُ في إصدار المجلات والمطبوعات الطبية الخاصة بإحدى المؤسسات. مع الشافعي كان هذا اللقاء، حول ديوانه الجديد، والعديد من القضايا الثقافية المتنوعة.
حاورته/ نوّارة لحرش
جاء إصدارك الأخير "غازات ضاحكة" (دار الغاوون، 2012) بلسان روبوت، لكن نصوصه تبدو حارة مشحونة بالعاطفة والرهافة. كيف وفقت في الحديث على لسان الآلي بوجدان ملتهب مبتهج على مدار أكثر من خمسمائة صفحة؟
•شريف الشافعي:
التجربة بلسان روبوت حقًّا، لكنها بقلب إنسان نابض، يستشعر أن الحياة الحرة المشمسة لا تعني أبدًا تنفيذ برامج باردة، وإطاعة أوامر عمياء، واتباع خرائط وبوصلات. لو رضي الآلي بآليته، بوضعيته النظامية، لما شرد عن السرب، وغرد عكس التيار والغبار. إنه هارب من نمط المعيشة الرتيب، والأدوار الجاهزة المرسومة، ليبحث عن مسار يخصه، ومصير يصنعه بيديه، حتى لو كان هلاكًا، لكنه يبقى موتًا في الهواء الطلق (الموت في الهواء الطلق: هواء طلق)، فما يبدو موتًا أفضل بالتأكيد من أنفاس مصطنعة تضخها أجهزة الإعاشة الجبرية.(العشقُ من وراء الزجاجِ الهشِّ: زجاجٌ هشٌّ)،
هكذا يرفض الآلي التغليف، والأفكار المعلبة، والمشاعر سريعة التحضير، فلا حياة بلا اقتحام ومبادرة ومغامرة وخطر، ذلك أن (السلامة في الحقلِ الملغومِ هي: أن ندوسَ أكبرَ قدرٍ من ألغامهِ). الالتهاب والابتهاج شرطاهما: البراءة واللانسقية، والعاطفة والرهافة ضدان للانتباه المقيت، الذي يربط البشر (الروبوتات) في ساعة الوقت الممتلئة، ليدوروا بحذر بغيض في حلقة مفرغة، وتتلاشى تدريجيًّا طاقاتهم الابتكارية الخلاقة. الآلي المتمرد على قوانين الروبوتات ينطلق في الدروب بلا حسابات معقدة، وبلا معدات صيد كافية، لكن قنصه الارتجالي هو الأثمن دائمًا: "تَعَطُّلُ راداري المتطوِّرِ ليلة أمس لَمْ يمنعني من إسقاطِكِ في حضني بصاروخٍ بدائيٍّ اسْمُهُ: الدهشةُ".
هل الآلي هو الذي استلهم من الشاعر واستحوذ على حساسيته وعواطفه وحرارته، أكثر من استلهام الشاعر من الآلي؟!
•شريف الشافعي:
البطولة في النص للإنسان الإنسان بالتأكيد، لا للإنسان الآلي الذي يبقى معدنه الخارجي مجرد حيلة نصية أو تقنية كتابية. لقد بلغ الآلي ما هو أبعد من الشعر، أعني هذا الحفاء النبيل، وذلك التعري من الأقنعة كافة، بما فيها قناع اللغة، الذي قد يفسد منطق الشاعر، أو يزخرفه. شعرية الآلي (التي تخصه) في تجرده وصدقه، شعريته في استشفافه المغاير لذاته والموجودات والعلاقات، لا في تعبيره عن هذا الاستشفاف. شعريته في وصوله المباشر، لا في وصفه الرحلة والطريق. شعريته في الحلول حيث يكون الجوهر، والامّحاء حيث يحضر الزيف وتنعقد القيود: "ما أجمل ألا يكون لي محلٌّ من الإعرابِ في عصرٍ عَصَرَهُ الضَّبْطُ بالشَّكْلِ وصار الجوهرُ فيهِ حرفًا زائدًا على الحاجة!".
هناك غرائبية في مقاطع "غازات ضاحكة"، وهناك في اللحظة ذاتها تضادات، لكن هناك أيضا احتفاءات شفيفة بالحب والإنسان والطبيعة والكون والكينونة وغيرها. هل هو وعي الشاعر أم لا وعيه؟
•شريف الشافعي:
الحب والإنسان والطبيعة والكون والكينونة والهواء الطلق هي حيوات الآلي، وليست مجرد احتفاءاته، هي أنفاسه اللاهبة اللاهثة، تفاعلاته المشهدية واللحظية، هي انطلاقاته غير المخطط لها التي صنعت يقظته ببساطة، وأنقذته من الغرق في السلبية والانقياد.(أن أوقظ وردةً واحدةً، خيرٌ من أن أنام في بستان)، هكذا يقول أحد مقاطع "غازات ضاحكة"، وفي مقطع آخر يقول الآليّ الذي لا يثق إلا بروحه، ولا يؤمن بالآليات:(لَمْ تكن هناكَ نيّةٌ للعشق/ لكنْ كان هناكَ قمرٌ/ حاولنا في مياهه الإقليميّةِ/ أن نفعل أيَّ شيءٍ باستثناء العشقِ، فلمْْ نستطع/ ولذلك غرقْنا).
هذا الإنسان الإنسان (غير الآلي بالمرة!) لا يتعمد في سلوكه، ولا في قوله، لأنه ببساطة هارب أساسًا من التعمد، والذهنية، والقصد، ومنظومة القوانين، وكل ما هو رتيب معدّ سلفًا. هارب إلى تلقائية الحياة، إلى دفء البساطة، إلى بساطة الدفء، إلى السماء المفتوحة، إلى الدروب المشمسة، إلى الابتسامة "الأورغانيك"، التي يواجه بها أقنعة الوجوه، والضحكات المصبوغة (اقتربي، مَلَلْتُ التنكّرَ، فيما لا أحبُّ/ اقتربي، اقتربي أكثر، مَلَلْتُ التنكّرَ فيما أحبُّ). أما تلك الغرائبية التي ترينها، فلربما هي ميكانيكية هذا العالم، الذي رحل عنا كضيف عجول، ولم يتبق من آثاره سوى الهندسة والخرائط (كثيرة هي الخرائط، فأين العالم؟!). تلك الميكانيكية، التي ترسم كثيرًا من مساراتنا الحياتية وبرامجنا اليومية، هي الغرائبية بعينها، رغم اندماجنا قهرًا في وجباتها الجاهزة. وهي المتعمدة، بل المصنوعة صناعة، لاصطياد البشر بشباكها، والتحكم في خطواتهم، ورسم مصائرهم بعبثية محكمة!.
نصوصك بعيدة عن الميكانيكية التي توحي بها عناوينك، هي نصوص الداخل واللحظة الذاهبة صوب الذات والمتجولة فيها بشغف ودهشة وحميمية منتجة لبهجات مختلفة. هل هذا مشروع الآلي الذي يعدنا به، في مواجهة التروس التي تحكم عالمنا؟!
•شريف الشافعي:
ربما يعي الآلي حركته الخاصة الحرة، لكنه لا يعد بمشروع، ولا بأي شيء، في مواجهة تلك الميكانيكية المهيمنة! إنه بالكاد يتحرك ضدها متدثرًا بالدهشة دائمًا، ومديرًا وجهه نحو اليقظة، ليجد ما يفعله في هذه الحياة، بطريقته ومنطقه، بل ليجد الحياة نفسها، ويوجدها أحيانًا، وسط النفايات والبارود وميليشيا الدخان (عذرًا قهوة الصّباح/ موعدي اليومَ مع رشفةٍ عميقةٍ/ من الصّباحِ نفسهِ). الفانتازيا ذاتها التي يرتادها ليست شطحات في المجهول، الحلم نفسه يُقاس جماله بحسّيته وسكَّره الممتص فعليًّا (أتدرينَ: ما أَرْوَعُ ما في الحُلْمِ؟/ أروعُ ما في الحُلْمِ، أنني لا أشعرُ بأنه حُلْمٌ، أثناءَ الحُلْمِ!). الآلي يرى نفسه أصلاً عاديًّا، ويحاول أن يفعل دائمًا ما يرى أنه الأصل الذي كان ينبغي أن يُفعل! هو ليس غرائبيًّا، الغرائبية هي تلك المصابيح الزجاجية في بيوتنا الأسمنتية، المصابيح المفرغة من الهواء، الراضعة من كهرباء، المتشابهة في ما تقتبسه، وفي ما تقوله أو تبثه من ضوء صناعي. أمَّا أن يتعلق الآلي بشعاع حيّ، وحبل من نسيم، ويدَّعي أنه يرى طريقه دون بوصلة، وقادر على الصعود إلى سابع سماء، فعلينا ألا نكذبه، وأن ننتظر لنرى: ماذا سيفعل؟ وإلى أي مدىً سيصل؟!.
في نصوصك تحضر الإيروتيكية أيضًا بصيغتها الأكثر شبقية أحيانًا، لكن دون أن تفلت منها دهشتها وحسّيتها وروح عاطفتها الطاغية المكتسحة لكل شيء. هل اللحظة الجسدية لها شمعتها الخاصة؟
•شريف الشافعي:
لا أميل إلى التقسيم والفصل، خصوصًا في ما يتعلق بالعجينة الإنسانية معقدة التركيب، أشك في أن الجسد يملك القدرة على رؤية أي معطىً بمفرده، بمعزل عن روحه ونبض قلبه وحرارة دمه وكهرباء أعصابه مثلاً، حتى لو أن هذا المعطى هو جسد الجسد نفسه. العشق مظلة حنون دافئة يحتمي بها الآلي على امتداد النص، فضاء عملاق يبحر فيه إلى ما لا نهاية. العشق مغامرة اكتشاف، واكتشاف للمغامرة. لا قيود على طريق العشق، ولو ظهرت إشارات ضوئية حمراء، فإنها دائمًا تغري بالعبور والاقتحام!. نعم هناك شموع واحتفاليات، لكنها ليست للجسد وحده، فلا وجود للجسد وحده أصلاً. إنما هي شموع، وألسنة لهيب أيضًا، للخميرة الإنسانية الكاملة، بطينتها ومائها ونارها ونورها وعناصرها الحيوية مجتمعة، لذلك فلا مجال للتعجب حينما تُعانق تلك التي تصفينها بالإيروتيكية ألعابًا طفولية بريئة، وتتعادل في ميزان الحياة الخلاقة كَفَّتا الحب والحرب: "لبَّيْتُ دعوتَها للعبِ لعبْنا بهمّةٍ منقطعةِ النظير لعبْنا حتى الثمالة/ في الصباح، اكتشفنا معًا أنها لَمْ تكنْ أبدًا لعبةً/ كانتْ حربًا صغيرةً على مقاس طفلٍ وطفلةٍ، لكلّ واحدٍ منهما: سلاحٌ بيولوجيٌّ آمِنٌ، يُحْيي ولا يُميتُ".
الآلي حمّال تجارب وحالات، ميزته دائمًا أنه يؤنس قارئه، يدهشه، ويجذبه نحوه حد التوحد. ما سر هذه الرغبات الإيجابية نحو الآلي وإنسانه ونيرماناه وإناثه وغازاته الضاحكة؟!
•شريف الشافعي:
ليتكِ تجيبينني أنتِ صديقتي المبدعة عن هذا السؤال، فالمفترض أنه سؤالي أنا لك! ما يدركه الآلي فقط أنه صديق ذاته تمامًا، وبالتالي هو صديق الصدق، وصديق قارئه، وبدون هذا القارئ الصديق المتفاعل بدرحة كبيرة، فلا اكتمال للكتابة. صدِّقيني إذا قلت لكِ إنني لا تعنيني "الفتوحات" التي يراها بعض النقاد والباحثين في أعمالي، بحد تعبيرهم الذي لا أدري هل فيه مبالغة أم لا. ربما معهم حق، لستُ أدري، ولا أتوقف عند ذلك الأمر! لستُ مشغولاً بأي رهان سوى تقطير الشعرية الخام وتكثيفها وتنقيتها وتصفيتها بأقصى طاقة ممكنة، وهذا طبعًا ليس للاستعراض الاحترافي، فأنا أكتب في المقام الأول بروح الهاوي العاشق، أكتب كي أجد شعرًا أستمتع بقراءته، وأرضى عنه تمامًا، فأنا في الأساس قارئ يلهث خلف فراشة الشعر الشيّقة!. "ليست مهنتي صناعة اللُّعَبِ، ولا صدري يتسع لرهان/ هو حصانٌ وحيدٌ اخترعْتُهُ يمرحُ كي يحيا ولا تربكه عثراتُ الطريق".
تتميز تجربتك الشعرية بفرادتها على مستوى قصيدة النثر العربية. هل كنت من البداية واعيًا بهذه التجربة، وبالتالي اشتغلت على إنضاجها أكثر مع كل كتابة، وكل إصدار جديد؟
•شريف الشافعي:
إيماني بالتلقائية والعفوية وروح الهواية والشعرية الخام وكتابة الحياة والهواء الطلق وكل ما تحدثنا عنه سابقًا، لا ينفي الوعي بطبيعة الحال، فإذا كان شيطان الشعر هو الذي يُملي في لحظات كشف نادرة لا تتكرر كثيرًا، فإنه لا يُملي أبدًا بهذا الأسلوب الفريد الذي تتحدثين عنه إلا على صفحة مهيأة تمامًا لأن يُملى عليها هكذا! وبديهي أن قدرًا غير هين من هذه التهيئة يتعلق بجوانب معرفية وفكرية ولوازم ثقافية لا غنى للشاعر عنها، إذا أراد أن تكون كتابته مشروعًا، وأن تختلف عما هو مستهلك راكد، وأن تنجو قصيدته من التسطيح، فلا تعارض بين البساطة والعمق، وروعة الشاعر الفارق أو المخلخل إذا جاز التعبير لها جناحان: إدهاشه الجزئي البريء، ورؤيته الكلية الكبرى للذات والكون.
هل لشعر الشافعي شروط خاصة به، تميزه وتشير إليه بوضوح؟! ماذا فعلتَ في الشعر، وتفعل؟!
•شريف الشافعي:
أيضًا هذا سؤالي أنا لكِ، وعليكِ أن تجيبي عنه بعد إتمام هذا اللقاء! صديقتي، شرط الشعر الوحيد، برأيي، أن يتحرك بلا شروط! تلك هي الجدلية البسيطة، والمعجزة. أروع ما في "قصيدة النثر" أنها تتيح مساحات واسعة للانطلاق وعدم التقيد، وهذا يتنافى مع القصدية والتعمد بالتأكيد، فعذوبة الشعر دائمًا في عفويته وتردداته التلقائية. الذهنية والمعطيات المسبقة والكتابة القائمة على الثقافة وحدها لا تقود أبدًا إلى حيوية ولا إلى طزاجة، فكتابة الحياة لا تأتي إلا من حياة.
قصيدة النثر إبحار دائم في التجاوز والمغامرة، وانفتاح لا محدود على كل الحقول والفضاءات، ووطء لكل الألغام!، الآلي لم يكن متعمدًا أبدًا في ما يسلكه، وما يقوله
(رزقُ هذه الأرض الطيبة، هو ما يسقط سهوًا من قبلاتكِ!).
على الصعيد اللغوي في تجربة "إنسان آلي"، إذا أردتِ مثالاً ملموسًا، ما من مجال لأي حُلِيٍّ أو حيلٍ، وقد ارتضى الآلي لذاته العُريَ بوصفه دفئًا داخليًّا يغنيه عن الملابس المصنوعة، واختار الحفاء النبيل ليصافح بقدميه مباشرةً حرارة الأرض وجاذبيتها دون وسيط. التجرد هو تحلل من أي مجاز قد يتلف الرؤية والكشف، فأنْ يخطئَ الإنسانُ الطريقَ أخَفُّ وطأة من أن تعانق خطواته رائحة إبرة ممغنطة. البوصلات كلها زيف، والغريبُ الذي يعبرُ الطريقَ، ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاءَ، ولا كلبٍ مدرّبٍ. هو بحاجةٍ إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ، تتسعُ لغرباء. اللغة مطية تعين على الوصول، فقط إذا اختارت أقصر الطرق، وإلا فإنها تصير حفلة تنكرية، وأقنعة، ووجوهًا مستعارة.(التحياتُ للعناصرِ المُشِعَّةِ بذاتها، لا لمصابيحَ راضعةٍ من كهرباء)، هكذا يقول الآلي الذي سئم التنكر في ما لا يحب، وفي ما يحب. إن ما أحلم به هو أن تكون "قصيدة النثر"، الماثلة والطاغية في الحاضر بدرجة نجاح مقبولة، ماثلة وطاغية في المستقبل بدرجة نجاح أكبر، حيث إنها للأسف الشديد خلال السنوات الأخيرة تكاد لا تخرج عن بضعة أنماط محفوظة، وإن تعددت أسماء الشعراء على الدواوين. لقد نفت البلاغات الجامدة، والآليات المكرورة، الشعر الجديد بعيدًا عن حيوية الحياة، وذهبت به إلى مختبرات الكتب، والثلاجات، ومتاحف الشمع، وحجرات التحنيط. وكم هو مثير للضحك أن تصير هناك كليشيهات (بل ومرجعيات شعرية وتنظيرية!) لقصيدة النثر، التي هي عند روادها فسحة لا متناهية للذاتية والمجانية والتوتر والمغامرة والتحرر والانزياح. هذا التنميط المزعج، الذي أضاع طموح الطفرات الشعرية الفردية، غذّاه للأسف النقاد العرب بتصنيفات الشعراء ومصطلحات القولبة والاستنساخ السخيفة كالأجيال والجماعات والحركات والروابط وما إلى ذلك. إن التفجير الشعري الحيوي المرجوّ أبعد بكثير من مجرد تحويل البنية اللغوية للقصيدة، فهو مرهون بالمادة الفعالة في "وصفة الشعر"، بالشعرية الخام إذا جاز التعبير، وقدرة القصيدة على أن تكون فاكهة الموسم الغضة في أي فصل من الفصول، وسط المعلبات الكاسدة.
إلى متى سيظل الآلي بطلاً فنيًّا وشعريًّا في كتاباتك، ألم تستنفد التجربة بعد؟ هل ستكون نصوصك القادمة متخففة من الآلي، لتخلق فضاء آخر وتجربة أخرى، ولتغاير أيضًا، أم أن الآلي لا يزال بحاجة إلى أن يتشكل بالشعر أكثر، وأن يكتشف ويُستكشف أكثر؟
•شريف الشافعي:
"الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، كما يوحي عنوانها، تجربة متعددة الأجزاء منذ البداية، والجزء الأول في طبعته الأولى عام 2008 يحمل غلافه عنوانًا تمهيديًّا هو (الأعمال الكاملة لإنسان آلي1)، وهذا الترقيم يعني بوضوح أن هناك أجزاء أخرى، لأنني بالفعل بدأتُ العمل فيها كلها معًا. أما إصدار أي جزء في كتاب فإنه يتوقف على اكتماله كديوان مستقل يُمكن أن يُقرأ بذاته، وهذا ما أرى أنه تحقق حتى الآن في ديوانين فقط: "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية"، و"غازات ضاحكة"، وربما يتحقق بعد ذلك، وربما لا يتحقق مرة ثالثة، إذا رأيتُ أن مدوّنات الآلي الأخرى لا تقدم جديدًا أو منفردًا يصلح ككتاب قائم بذاته. وبعيدًا عن مسار الآلي تمامًا، هناك ديوان جديد بدأت فيه بالفعل منذ حوالي عام، وأرى أن قصائده أوشكت على الاكتمال، وإلى هذه اللحظة أستشعر أنه ديواني المطبوع المقبل.
حظيت تجربتك بدراسات نقدية قلما حظيت بها تجارب الشعراء من جيلك، كما تمت ترجمة "الأعمال الكاملة لإنسان آلي1" إلى الإنجليزية بعد صدوره في ثلاث طبعات عربية، واختير للتدريس لطلاب جامعة "آيوا" الأمريكية وجامعة الكويت، باعتباره نموذجًا متميزًا للشعر العربي. هل أنت راضٍ عن الالتفات النقدي إليك كيفًا وكمًّا؟
•شريف الشافعي:
راضٍ إلى حد مقبول، لكن خارج مصر، خصوصًا في دول المغرب العربي ولبنان وسوريا، حيث يوزن الشعر بميزان الذهب تحت الأضواء البراقة، بعيدًا عن ثقافة "العلاقات العامة"، وهذا ما دفعني بكل صراحة إلى نشر دواويني الأخيرة خارج مصر، فهو إذن سبب فني بحت. أيضًا التوزيع خارج مصر أفضل بكثير، حتى في دول الخليج العربي من خلال منفذ البحرين (مكتبة فراديس). أما البهجة الحقيقية التي أرفرف بها فعلاً، فهي رسائل القراء الواردة من كل مكان، وتعليقات زوار موقعي الشخصي والجروبات الخاصة بتجربتي على موقع فايس بوك. هكذا يشعر صديقي الآلي بأنه فعل شيئًا، وهكذا ينتشي، متماهيًا مع العصفور الذي يحبه: "العصفورُ، الذي بَلَّلَهُ المطرُ صار أخَفَّ وأجملَ/ من شدةِ نشاطهِ، حلّقَ العصفورُ في السماءِ نفضَ ريشَهُ المبْتَلَّ ببهجةٍ ليُذيقَ السحابَ حلاوةَ استقبالِ المطرِ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.