الرئيس تبون يؤكد أن المسألة غير قابلة للتنازل أو المساومة: المصداقية والجدية مطلب أساسي لاستكمال معالجة ملف الذاكرة    رئيس مجلس الأمة صالح قوجيل يؤكد: الاستعمار كان يهدف لتعويض الشعب الجزائري بشعب أوروبي    القمة الإفريقية حول الأسمدة بنيروبي: رئيس الجمهورية يبرز الدور الريادي للجزائر في مجال الأسمدة عالميا    خلال اجتماع اللجنة المشتركة: تأكيد على ضرورة تكثيف التعاون الجمركي بين الجزائر وتونس    تحذيرات من كارثة إنسانية جراء هذه الخطوة    أطلقتها مديرية الحماية المدنية: قافلة لتحسيس الفلاحين بطرق الوقاية من الحرائق    باتنة: الدرك يطيح بعصابة سرقة المنازل بمنعة    والي خنشلة يكشف: مشاريع البرنامج التكميلي وفرت 5852 منصب عمل    الرئيس تبون يؤكد على ضرورة التجنّد لترقية صورة البلاد    على هامش لقاء سوسطارة والكناري حسينة يصرح: ملفنا قوي و"التاس" ستنصفنا    بسبب نهائي كأس الرّابطة للرديف: رقيق وعويسي خارج حسابات مدرب وفاق سطيف    وفاة الأسيرة الصهيونية "جودي فانشتاين"    الجزائر تدين بشدة تنفيذ الاحتلال الصهيوني لعمليات عسكرية في رفح    استراتيجية جديدة للتعليم والتكوين عن بُعد السنة المقبلة    اتفاقية بين ألنفط و إيكينور    دورة جزائرية تركية    دور ريادي للجزائر في تموين السوق الدولية بالأسمدة    بدء التوغل العسكري الصهيوني في رفح    أفضل ما تدعو به في الثلث الأخير من الليل    تكريم الفائزين في مسابقة رمضان    الجزائر تضطلع بدور ريادي في مجال الأسمدة وتطوير الغاز    مشروع مبتكر لكاشف عن الغاز مربوط بنظام إنذار مبكر    قسنطينة تستعد لاستقبال مصانع التركيب    هذه مسؤولية الأندية في التصدى لظاهرة العنف    دخول 3 رياضيّين جزائريّين المنافسة اليوم    دريس مسعود وأمينة بلقاضي في دائرة التّأهّل المباشر للأولمبياد    16 موزعا الكترونيا جديدا لتحسين الخدمة قريبا    تأكيد على دور حاضنات الأعمال في تطوير المؤسسات الناشئة    دعوات دولية لإتمام اتفاق وقف القتال    دعمنا للقضية الفلسطينية لا يعني تخلينا عن الشعب الصحراوي    زعماء المقاومة الشّعبية..قوّة السّيف وحكمة القلم    3 مراحل تُنهي الحرب وتُعيد النازحين وتُطلق سراح الأسرى    الحجز الإلكتروني للغرف بفنادق مكة ينطلق اليوم    ترحيل 141 عائلة من "حوش الصنابي" بسيدي الشحمي    بن رحمة هداف مجددا مع ليون    وزير التربية:التكوين عن بعد هي المدرسة الثانية    حجام يتألق في سويسرا ويقترب من دوري الأبطال    الأهلي المصري يرفع عرضه لضم بلعيد    تبسة : ملتقى وطني حول تطبيق الحوكمة في المؤسسات الصحية    صيد يبدع في "طقس هادئ"    طرح تجربة المقاهي ودورها في إثراء المشهد الثقافي    فيلم سن الغزال الفلسطيني في مهرجان كان السينمائي    دعوة إلى تسجيل مشروع ترميم متحف الفسيفساء بتيمقاد    تفكيك جماعة إجرامية مختصة في السرقة    دعوة لإعادة النظر في تخصص تأهيل الأطفال    مطالب ملحّة بترميم القصور والحمّامات والمباني القديمة    أولاد جلال : حجز 72 كلغ من اللحوم غير صالحة للاستهلاك    أم البواقي : أسعار الأضاحي تلتهب والمواطن يترقب تدخل السلطات    حج 2024:بلمهدي يدعو أعضاء بعثة الحج إلى التنسيق لإنجاح الموسم    هول كرب الميزان    بن طالب يبرز جهود الدولة في مجال تخفيض مستويات البطالة لدى فئة الشباب    وزير الاتّصال يكرّم إعلاميين بارزين    دعوة إلى تعزيز التعاون في عدّة مجالات    الجزائر تصنع 70 بالمائة من احتياجاتها الصيدلانية    ضبط كل الإجراءات لضمان التكفل الأمثل بالحجاج    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجزائر نيوز ترافق شباب في طريق ''الحرڨة /الطريق إلى ''الهدة''

لطالما ارتبط الغرب الجزائري بجملة من الأفكار المسبقة المكرسة في مخيلة الجزائريين، فأهل وهران أصحاب مزاج مرح عاشق للحياة ولذاتها، غير أن البؤس الاجتماعي المسلط على العباد امتد لهذا الغرب السعيد ليتجسد في هرولة شباب الجزائر ليلقي بنفسه في عرض البحر، فإن نجا أصبح صاحب حظ وإن نفضت الأمواج جثته، طلب ذويه الغفران لروحه· هكذا تحوّلت شواطئ وهران وضواحيها القِبلة التي يرى فيها الراغبون للهجرة آخر أمل لهم للنجاة من يوميات الشقاء·
طال البحث للعثور على رأس الخيط لحكايتنا عن ''الحرافة'' ولم يكن البحث بالأمر الهين، بالنسبة للبعض مثل هذا الحديث لا وجود له سوى على صفحات الجرائد، غير أنه لما كان الشيء بالشيء يذكر، بلغ حديثنا لشاب قيل لنا إنه من العارفين بالموضوع، فكان لقاء ''عابد'' بداية الرحلة، رحلة لقاء أشخاص لا ندري ونحن نكتب هذه الكلمات ما إن كانوا بلغوا مقصدهم أم تلاعبت بهم المقادير· ما كان يفترض أن يكون مجرد عمل صحفي تحوّل إلى تعلق بأشخاص نأمل أن يجدوا ما حلموا به أينما كانوا: جيلالي، ناهد، مصطفى، عبد القادر وآخرون·
أول حديث لنا عن موضوع ''الحرفة'' بعد يوم من وصولنا إلى وهران، كان ونحن نتجه إلى قلعة ''سانتا كروز''، حيث دار الحديث مع سائق الطاكسي عن العديد من الأمور، لم نستثن منها لا السياسة ولا الثقافة ولا غيرها من المجالات، كانت فرصة للتأكد من أن أحسن مرشد في أي مدينة هم سائقو الطاكسي، فقد كان محدثنا بمثابة المرشد لكل تفاصيل الحياة في وهران، تحدث عن تاريخ القلعة، تدهور الوضع الأمني وصل لدرجة سرقة زوجة القنصل الإسباني في قلب المدينة، وحديث عن الوالي الجديد، الذي قيل إنه يتمهل لمعرفة الوضع قبل الخوض في أي تعديلات أو إصلاحات··· كانت شهية السائق المفتوحة على الحديث السبب الرئيسي لتطرقنا لموضوع ''عصابات'' أو لنقل ''تنظيمات الحرافة'' بوهران، بالطبع كان للسائق قسطا من المعلومات بهذا الخصوص وهو يؤكد: ''أنا نهدرلك الصح، ما تخلي حتى واحد يغلطك، ما كان لا عصابات ولمن يحزنون، كل واحد يحب يروح، يشري زودياك ويشوف واحد يسوق بهم، من بعد يفتشو على الركاب، كل واحد يخلص المطلوب''، بمثل هذا الحديث المبسط لخص السائق القصة وما فيها، مشيرا إلى أن الحديث عن عصابات ''الحرافة'' أمر مبالغ فيه وأن الأمر لا يقتصر على مبادرات فردية، غير أنه مع تكرر وتفاقم الرغبة في الهجرة بذات الطريقة تحوّل الأمر إلى ما يشبه إلى نوع من التنظيم يشرف عليه بعضا ممن يعرفون أسرار البحر. ولأن القصص تبدأ ولا تنتهي، فقد كان لسائقنا شيء من قصص الذين رحلوا وآخرين ممن فشلوا في عبور البحر، مشيرا إلى بعض شباب حي ''مارافال'' الذين عادوا بخيبة أمل كبيرة بعد أن ظلوا أياما بعرض البحر إلى أن تم إنقاذهم من طرف البحرية الجزائرية في منطقة بني صاف، عند هذا الحد تكرّست القناعة أننا وجدنا رأس الخيط الذي نحن بصدد البحث عنه، كان لابد من لقاء العائدين من الموت المحتم·
''سليم'' العائد من الموت المحتم
في اليوم الموالي كان اللقاء مجددا مع السائق ذاته وكانت الوجهة بيت ''سليم'' بحي ''مارفال''، لم يطل البحث طويلا، فالشاب من معارف السائق، كانت الساعة تشير إلى حوالي العاشرة والنصف صباحا، حين نزل ''سليم'' من البيت، وبعد التعارف أبدى ابتسامة عريضة وهو يقول: ''جيتوا من العاصمة باش تكتبوا عليّ وين سمعتو بالحكاية''، في الواقع لم تكن قصة سليم بعينها التي قصدنا إلا لكونها واحدة من عشرات القصص التي تتكرر مع اختلاف الخاتمة· بدأ ''سليم'' في سرد قصته، فهو لا يختلف في شيء عن رفاقه الذين سبقوه إلى إسبانيا: ''البداية كانت بذهاب رفيقي الحميم إلى إسبانيا بذات الطريقة، أي عبر البحر بعد غياب شهرين تلقيت رسالة عبر الأنترنت، حيث شاهدت صوره بمقهى الأنترنت، كان كل شيء يدل على أنه بلغ إسبانيا بأمان بل إن ضحكة عريضة كانت تعلو وجهه، وقد أكد أنه يسكن مع أحد أبناء عين تموشنت ويعمل لدى أحد المزارعين بمقاطعة كاتالونيا، بالرغم من عدم حصوله على أي وثيقة رسمية، إلا أن الإخوة هناك ساعدوه على الإقامة والعمل، المثير أنه كان يدعوني للالتحاق به، فالإقامة والعمل مضمونان، من هنا بدأت رحلة البحث عن أصحاب الزوارق للعبور إلى الضفة الأخرى''، على عكس الاصطلاح الشائع ''الحرفة''، يتحدث سليم عن ''الهدة''، تلك الرحلة المرجو منها الخلاص وتخليص كل من بقي وراءه، فسليم الابن الأوسط لأسرة تتكون من ستة أفراد، الوالدين، الأخ الأكبر المتزوج في الشقة العائلية، إلى جانب شقيقتين في الطور الثانوي من الدراسة، بالكاد يحصل على مصروف يومه من عمله كحارس في الليل في إحدى حظائر السيارات بوسط المدينة، مهنة يقول عنها إنها تسبب له من المتاعب أكثر مما يجنيه من مال يساعده على تأسيس حياة تحترم كرامته الأدمية·
بداية ''الهدة'' بالنسبة لسليم كانت بالتوصل إلى المرشد وسائق القارب الذي سيقودهم نحو سواحل إسبانيا، وقد كان اللقاء مع المعني ''قادة'' الذي أكد للراغب بالهجرة أن الأمر منوط بتوفير قارب ومحركات من طراز موثوق فيه، إلى جانب تأمين عدد من الركاب يتناسب وحجم القارب وقوة المحرك، وبالفعل تم اقتناء قارب ''زودياك'' بحجم 4.20 متر طول و1.50 متر عرض، تم تزويده بمحرك من نوع ''ياماها'' 40 حصانا ولاستكمال العدة، كان لا بد من التزود بالوقود، فكانت الحمولة لحوالي 140 لتر من البنزين، لتبدأ رحلة البحث عن الركاب التي اعتبرها ''سليم'' من أسهل المهام، على اعتبار أن أعداد لا تحصى من الشباب تبحث عن ''الركبة المضمونة'' على حد قوله، فقبل أن تسأل مع من ترحل لا بد أن تسأل: ''مع أي مرشد وسائق وعلى متن أي قارب ومحرك''، مثل هذه الأمور هي التي تحدد مصير الرحلة· وقد كانت انطلاقة ''سليم'' وسبعة من رفاقه ليلة الأحد من شهر جوان ,2009 ليغيب في ظلام الليل، غير أنه بعد حوالي أسبوع عاد ليظهر من جديد بعد أن أمضى أيام في المستشفى المركزي لوهران، فقد تم إنقاذهم من طرف البحرية الجزائرية بعد ثلاثة أيام من الضياع في عرض البحر، تجربة يقول عنها سليم: ''كان البعض منا يشهد ويقرأ بعض الآيات القرآنية، لأننا ببساطة اعتقدنا أننا هالكون لا محالة، لم نجد ما نأكله ولا حتى الماء للشرب، أصبح الواحد منّا ينتظر الموت، في تلك اللحظات فكرت في والديّ وشعرت أنني لم أفكر يوما في حضنهما، كانت علاقتي بهم عابرة، في تلك اللحظات رأيت الموت وندمت على الكثير من الأشياء من ضمنها إقدامي على مثل هذه المغامرة غير المحسوبة العواقب. بعد أن لمحنا ضوء الباخرة الجزائرية عرفنا أننا سننجو، لكن لا أدري أنني فكرت أنه سيتم النظر إليّ على أنني فاشل، ناهيك عن الخوف من السجن، قضينا أياما في المستشفى بعدها تمت إحالتنا على العدالة، لنعود أدراجنا لذات الحي وذات اليوميات البائسة. بصراحة، بين الحين والآخر أستمر في التفكير في تكرار التجربة، فلا شيء يشدني للبقاء هنا''·
رحلة الموت أو الخلاص
إلى غاية هذه المرحلة كان تقربنا من موضوع ''الحرافة'' مجرد أحاديث، كان صوت ما في داخلي يخبرني أنني لا بد من التقرب أكثر من معايشة التجربة عن قرب لنقلها بصورتها التي يعيشها كل الهاربين من هذا الوطن، كان ''سليم'' رفيقي هذه المرة في رحلة البحث، وبصراحة لم تكن رحلة طويلة، فسليم يدرك الكثير عن مسارات هواتف المعنيين، كان أول اتصال له مع المدعو ''جيلو'' علمت فيما بعد أن اسمه ''الجيلالي'' مهمته ترتيب الرحلات دون أن يغرى بدوره على القيام بواحدة من هذه الرحلات المحظورة. كان اللقاء مع ''جيلو'' في مقهى شارع العربي بن مهيدي بقلب وهران· كان شابا يقترب من الأربعينات من العمر، غاية الأناقة، تنبعث منه روائح أغلى الماركات الباريسية، ثم هناك ذاك التفصيل الذي يجعل منه من المرفهين، ويتعلق الأمر بتلك الساعة السويسرية الفاخرة وسلسلة المفاتيح، كلها أشياء تدل على أنه ميسور الحال أو كما يقال ''فوق الريح''. كانت بداية الحديث مجرد مجاملات وحديث عن الفرق بين العاصمة ووهران، في الواقع كنت في انتظار اللحظة التي ينطلق فيها الحديث عن الموضوع المنشود، ليسبقني ''جيلو'' بقوله: ''شتبغي تعرفي على ''الهدة''، الأسعار، كل رحلة وقيمتها، إذ يتم تحديد ذلك بقيمة المرشد السائق ونوعية العتاد المستعمل: ''فيما يخصني أكاد أجزم أنه لا مجال للخطأ في عملي، حين أقول إنني سأوصلك إلى شواطئ إسبانيا، فهذا يعني أنني سأحرص على ذلك بكل الطرق، نملك معدات تكنولوجية جد حديثة، بالإضافة إلى مرشدين يعرفون البحر على متن قوارب متطورة، فيما يخص الأسعار فتتراوح من 150 ألف دينار جزائري وقد تصل إلى 250 ألف دينار للشخص، كل الذين وصلوا إلى إسبانيا يدعون بالخير لي، لست مثل البعض ممن يأخذون المال ثم يهربون أو يبلغون عن الرحلة''، بهذا الخصوص يؤكد كل من ''سليم'' و''جيلو'' أنه في الفترة الأخيرة تفشت ظاهرة جديدة، إذ يدعي البعض بتنظيم رحلات ويتسلمون المال، غير أنهم في الليلة الموعودة يبلغون حراس السواحل ليتم إلقاء القبض على الجميع، مع العلم أنه ما من إمكانية لاسترجاع المال. من جهته، يؤكد ''جيلو'' أنه لا يتعامل مع أي كان، إذ أنه هو من يقوم باختيار زبائنه، فلا مكان للمدمنين ولا لمن له سوابق عدلية. في هذا السياق، لا يتوان في طلب نسخة من سجل السوابق العدلية بقوله: ''هذه العينة من البشر لا تتحكم في أعصابها ولا في سلوكها، يمكن أن تتسبب في خلافات في عرض البحر في الوقت الذي نحتاج فيه إلى الهدوء والطاعة''، كما أنه يمنعه منعا بتا حمل أي أغراض، إذ يوزع الماء والقليل من الأكل على الركاب إلى غاية الوصول إلى سواحل إسبانيا· بهذه الصرامة يتعامل ''جيلو'' مع مهنته الجديدة التي أكسبته من المال ما جعله من المرفهين. في حال قلت له إنه بات يشرف على عصابة لتهريب البشر، يؤكد أنها ليست عصابة بل هي مجرد تفعيل علاقات وصداقات مقابل تبادل الخدمات، مشيرا إلى أنه يقدم خدمة لأشخاص يصرون على طلبهم، كما أنه يعمل بشكل فردي ولا يشغل أفرادا على مدار السنة، ففي نهاية الأمر لا يجعل من هذا الأمر مهنته الرئيسية، فهو بالكاد يشرف على خمس رحلات في السنة لا أكثر ولا أقل·
بعد طول إصرار وإلحاح أزعجا ''جيلو'' قبل أن نرافقه في واحدة من الخرجات الليلية التي يحضرها، فقد جرت التحضيرات لخرجة بحرية في غضون الأيام القليلة القادمة، حاول ''جيلو'' بكل ما يملك من مبررات أن يشدد على خطورة الموقف، مشيرا إلى أن اللقاء يتم في الليل، لم يكن ذلك بدافع للتراجع بالرغم من التأكيد على بُعد المسافة، أمام إصرارنا تم الاتفاق على اللقاء في التاسعة ليلا بكورنيش ''Front de mer'' لتبدأ الرحلة الليلية مع كل من سليم وجيلو، المفاجأة كانت وجود الفتاة ''ناهد''، التي اعتقدت أنها صديقة أحد الرجلين، غير أنه بعد لحظات صدمت بقولها إنها واحدة من المرشحين ''للهدة''، كان عمرها بالكاد يقترب من الثلاثينات، لم أعرف من أين أبدأ حديثي معها، فقد كانت صدمتي كبيرة، اعتقدت بسذاجة أن الأمر يقتصر على الشباب، ما الذي يدفع بفتاة لا ينقصها من الجمال شيء أن تقدم على مخاطرة مثل هذه، لم تكن تلك الصدمة الوحيدة، فقد أخبرتني بعد ذلك أنها حامل في الشهر الثالث·
كانت الوجهة شاطئ ''بوزجار'' بعين تموشنت، ما يعني أن مسافة الطريق تستغرق على الأقل 45 دقيقة، ما يفسح أمامنا الوقت للحديث، كان ''جيلو'' يحدثنا عن جمال هذه المنطقة في فصل الصيف، حيث يحتشد آلاف السياح يرغبون في قصد جزر ''حبيبة'' التي يقال إن السباحة فيها لا تشبه السباحة في مياه الساحل، علمت من محدثنا أننا في طريقنا للقاء مجموعة من الشباب الراغب في الهجرة إلى إسبانيا، حيث سيكون اللقاء لترتيب آخر التحضيرات وإجراء التعارف بين السائق والمرشد وبقية الركاب، كانت فرصتي للحديث مع ''ناهد''، قبل ذلك لم يفوتني أن أمدح اسمها، فهو غير متداول كثيرا عندنا، سارع ''سليم'' للقول إنه قد يكون اسم مستعار، ما نفاه ''جيلو''، فقد اطلع على أوراقها الثبوتية، دار كل هذا الحديث وهي كالغائب أو غير المعني بالكلام، لتتحدث بعد صمت الجميع: ''كانت أمي تعشق الممثلات المصريات، كانت ترغب في تسميتي شادية، غير أن والدي تذكر اسم ناهد في آخر لحظة في البلدية، اعتبره اسما مشرقيا، لم تغضب أمي كثيرا من تغيير الاسم''·
كان أول سؤال تبادر إلى ذهني مدى تخوفها من مغامرة مثل هذه والأسباب التي قد تجعلها تفكر فيها، فكان ردها: ''بعد وفاة والدتي تزوج والدي ولم أتحمل الأمر، فتزوجت بدوري، غير أنني لسوء الحظ وقعت في رجل مدمن وسكير، مازلت صغيرة لا أرغب في تمضية حياتي مع رجل لا يفقه الكلام قدر قدرته على الضرب، ثم هناك أختي في فرنسا تظل تحثني على اللحاق بها، غير أنني لم أحصل على التأشيرة لأكثر من خمس مرات، لم يبق أمامي غير هذا الحل، ثم إن كل الذين تعاملوا مع ''جيلو'' وصلوا إلى إسبانيا بسلام، لست الفتاة الوحيدة، الكثير من الفتيات القادمات من سيدي بلعباس، مستغانم وغيرها تعاملوا معه، كلهم اليوم في أوروبا يعملون، في حال وصلت إلى إسبانيا ستتكفل شقيقتي بإدخالي إلى فرنسا، أنا على اتصال دائم بها، بصراحة لم يعد شيء يشدني في الجزائر، لا زوج ولا أم، حتى طفلي الذي سيولد بعد أشهر لا أرغب له أن يولد هنا، في حال أنجبت في إسبانيا سأحصل على وثائق الإقامة''· في هذه المرحلة من الحديث تدخل ''جيلو'' ليؤكد أن كل الفتيات اللائي تعاملن معه وصلن إلى البر من الضفة الأخرى، ما يقمن به هناك لا يخصني ولا يهمني أنا مسؤول عن وصولهن إلى الضفة الأخرى بسلام فقط لا غير· بعد فترة من الحديث بلغنا شاطئ ''بوزجار'' لنجد كل من مصطفى، جيلالي وعبد القادر في انتظارنا برفقة عمي ''البلّي'' هكذا نداه ''جيلو''، عرفت أنه السائق والمرشد، أكد للجميع أن الرحلة في هذه الأيام ستكون خطيرة، فالرياح قوية والحراسة مشددة، بلغ الجميع خبر تزود حراس السواحل بزوارق قوية السرعة مزودة بمحركات حديثة الطراز وعليه لا بد من التريث، مؤكدا أن الخروج سيكون في هذا الشهر إذا سارت كل الأمور على حالها، مؤكدا في الوقت ذاته أن فصل الشتاء من أخطر الفترات للخروج، غير أنه في حال تيسر الأمر يمكن التخلص من الحراسة، كان رد فعل ''ناهد'' بقولها: ''مادمت سأرحل قبل الوضع، كل شيء على ما يرام''، كان أحد الصبية يوزع أكواب الشاي، فالجو كان شديد البرودة، ودار الحديث على هذا النحو إلى غاية الواحدة صباحا، ''جيلو'' يسأل عن المستجدات والعم ''البلّي'' يجيب بما يلزم بقليل من الكلمات· عاد الكل إلى وجهته على أمل أن يكون انطلاق ''الهدة'' بعد أيام، بدا لنا أن الكل غير واعٍ بخطورة الوضع، فقد تعالت الضحكات ونحن نغادر شاطئ بوزجار والعودة إلى وهران، كانت ''ناهد'' تتحدث عن مستقبلها في فرنسا رفقة شقيقتها وطفلها وكلها أمل أن يعود الطقس لبعض الصفاء من أجل التعجيل في الخرجة البحرية·
القانون والعدالة يعاقبان ''الحرافة''
يستمر إقبال الشباب على الهجرة غير الشرعية عن طريق قوارب الموت بالرغم من كل التهديدات التي تطالهم، ليس فقط من مخاطر البحر واحتمال الموت غرقا أو من الجفاف، بل كذلك من القانون الجزائري الذي بات يعاقب كل المغامرين من شباب ''الحرفة''، إذ أن المادة 571 مكررة تعاقب كل: ''من يقدم على الخروج من البلاد دون تراخيص قانونية''، مع الإشارة إلى المحاكم الجزائرية باتت تشهد تكرار حالات مثول المتورطين في الهجرة السرية، فقد شهدت محكمة وهران في الفترة الأخيرة محاكمة ما لا يقل عن 891 شاب من ''الحرافين''، هذا إلى جانب تكرار عمليات التوقيف على طول الشريط الساحلي الجزائري، بدءا من عنابة وصولا إلى آخر نقطة في الغرب الجزائري·
وفي هذا الصدد، تناشد السلطات الإيطالية والإسبانية السلطات الجزائرية التعامل بصرامة أكبر تجاه هذه الظاهرة التي باتت تتفاقم بالرغم من كل المخاطر التي تحوم حولها· فقد أكد أحد المصادر -رفض ذكر اسمه- أنه لا بد للسلطات الجزائرية أن تجري بحثا معمقا حول عدد الشباب الذين تمكنوا من بلوغ السواحل الأوروبية، لأن عملية الترويج تستمر في النجاح مادام الكل يؤكد على أن الأغلبية تصل لأوروبا، وعليه لا بد من تكذيب ذلك وإلا استمر الشباب الجزائري في اختيار هذا الحل· ففي منطقة الغرب الجزائري باتت عمليات الهجرة السرية تعرف تنظيما محكما، رغم كل العراقيل الموضوعة في وجه الراغبين بالهجرة، ومع ذلك يظل الطلب على هذا الحل قائما بل ويتزايد، إذ يشير محدثنا إلى أنه يتم التكتم على الجثث التي يتم العثور عليها على طول الشريط الساحلي· وبهذا الخصوص، يرى مصدرنا أن الجزائر إلى حد الآن لم تتعامل مع الظاهرة بالجدية المرجوة، وأصدق دليل على ذلك عدم وجود حملات تحسيسية وإحصاءات واقعية تتعلق بالظاهرة·


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.