وزير الشؤون الخارجية يستقبل رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    الشمول المالي: الجزائر حققت "نتائج مشجعة" في مجال الخدمات المالية والتغطية البنكية    سكك حديدية : برنامج شامل لعصرنة وتطوير الشبكات    أشغال عمومية : تكليف المفتشية العامة للقطاع بمراقبة كل مشاريع الطرقات    "الأمير عبد القادر...العالم العارف" موضوع ملتقى وطني    كمال الأجسام واللياقة البدنية والحمل بالقوة (البطولة الوطنية): مدينة قسنطينة تحتضن المنافسة    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    رابطة قسنطينة: «لوناب» و «الصاص» بنفس الريتم    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    قراءة حداثية للقرآن وتكييف زماني للتفاسير: هكذا وظفت جمعية العلماء التعليم المسجدي لتهذيب المجتمع    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    سوريا: اجتماع لمجلس الأمن حول الوضع في سوريا    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    معالجة 40 ألف شكوى من طرف هيئة وسيط الجمهورية    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و305 شهيدا    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    بطولة وطنية لنصف الماراطون    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    تمرين تكتيكي بالرمايات الحقيقية.. احترافية ودقة عالية    إنجاز ملجأ لخياطة وتركيب شباك الصيادين    ارتفاع رأسمال بورصة الجزائر إلى حدود 4 مليار دولار    تفعيل التعاون الجزائري الموريتاني في مجال العمل والعلاقات المهنية    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    عائلة زروال بسدراتة تطالب بالتحقيق ومحاسبة المتسبب    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



“وليام سبورتيس" ينشر مذكراته بعنوان: معسكر الزيتون مسار شيوعي جزائري".. حياة يهودي جزائري حافلة بالمقاومة الوطنية والاجتماعية

لو كانت هناك جائزة تمنح، بإنصاف، لنوع المذكرات في الجزائر، فبالتأكيد، هذه الجائزة ستذهب، إلى مذكرات المناضل الجزائري “وليام سبورتيس"; التي تحمل عنوان “معسكر الزيتون مسار شيوعي جزائري"، التي صدرت عن منشورات جامعة رين بفرنسا، في نهاية شهر أكتوبر الماضي.
لو كانت هناك عدالة فوق هذه الأرض لاحتفلت وزارة ومنظمة المجاهدين في الجزائر بهذه المذكرات وشرفت صاحبها. ولكن الزمن ليس زمن العرفان وإنما هو زمن النهب بكل أشكاله. إن هذا الرجل اليهودي الجزائري موغل في وطنيته. قد يدهش هذا الأمر أصحاب الفكر الواحد المزيف للتاريخ والحقيقة والذين سيحدث لهم ما يحدث لكل قبيلة تحصر الزواج فيما بين أفرادها دون سواهم.
وقبل الخوض في محتوى مذكرات “سبورتيس" علينا تسويغ دعوتنا لإنصاف هذا الرجل.
في السنوات الأخيرة، وبفضل تزايد أعداد دور النشر وحرية التعبير والرغبة في معرفة التاريخ خاصة تاريخ ثورة التحرير والحركة الوطنية لفهم الحاضر، تزايد عدد المذكرات الصادرة ومسَّت هذه العدوى الإيجابية حتى أفراد جهاز الااستخبارات وهو الجهاز المشهور،أصلا، بصمته والذي ينتمي الجيش، الذي يسمى بدوره “الصامت الأكبر".
السير الذاتية والمذكرات ضحية الغريزة والتسرّع
ولكن أغلب الكتب مالت إلى تمجيد الذات أو تضخيمها أو تبرير تصرفاتها، وبالطبع، فإن هذه النزعة طبيعية وواضحة في الكتابات المرتبطة بالذات الإنسانية، وهو أمر يعرفه كتاب السِّيَر.
مذكرات وليام سبورتيس، التي لم أطلع على مثلها في الجزائر وإلى حد بعيد، حتى في خارجها، إذ جاءت المذكرات في شكل أجوبة على أسئلة، في مقابلات، طرحها عليه الأستاذ “بيير جون لوفول لوسياني"، باحث متخصص في التاريخ الحديث يعد أطروحة جامعية حول اليهود الجزائريين المعادين للاستعمار في فرنسا وفي الجزائر. ولم يكتف هذا الباحث بمعرفته للموضوع بل خصص له ما يقارب الأربع سنوات. حيث درس كمًا هائلا من الأرشيف الذي كان مغلقا مثل “أرشيف ما وراء البحر" التي تتضمن أرشيف الاستخبارات الشرطة الفرنسية" وعمالات قسنطينة والجزائر وووهران وأرشيف في فرنسا والقضاء العسكري والمقاومة والدوريات والصحف ولقاءات ممن بقوا أحياء من رفاق وأصدقاء وليام سبورتيس، وأرشيف وليام الخاص، أيضا. يقول “بيير جون لو فول لوسياني"، في تقديمه للكتاب بعد التذكير باِستفادته من الأرشيف الذي اِستعان به: “... وأكملت شخصية وليام سبورتيس الباقي، فهو يملك ذاكرة مدهشة، وأرشيف شخصي جد ثري وهمٌّ ثابت في الحديث بنظرة شمولية خاصة بخصوص رفقائه الشيوعيين، وكان متفتحاً أمام الأسئلة والنقد حتى وإن كان يدافع عن “الخط"، فإنه دخل اللعبة خلال الساعات الطويلة من العمل وقد كنتُ خلالها، مثلما اِعتاد أن يقول لي، “أضغط على الليمونة، بلا رأفة".
وقد مكَّن هذا التحكم في المجال ووفرة الأرشيف الأستاذ “لوفول لوسياني"، من طرح أسئلة تسمح للمتحدث ب “نفض" كل ما علق بذاكرته ومن إثارته للحديث عن المسائل الخلافية مثل الحديث عن الصراعات بين اليهود والمسلمين في الجزائر، وموقف الحزبين الشيوعي الجزائري الفرنسي من أحداث 8 ماي 1945، وموقف الشيوعيين من اِنقلاب الرئيس بومدين وغيرها من القضايا.
مذبحة 5 أوت 1934 في قسنطينة
في بداية الكتاب، يروي “سبورتيس" طفولته منذ ولادته في عام 1923، في قسنطينة، في حي “سان جون" الأوروبي المشهور بعنصريته ضد اليهود والعرب، حيث كان بالمدينة ما يقارب 12000 يهودي و37000 أوروبي و50.000 مسلم، حسب تصنيفات الإحصائيات الفرنسية لذلك العهد. وعندما ولد لم تستطع والدته إرضاعه، وأمر الطبيب العائلة بتغذيته بحليب الأبقار، مشددا على أن ذلك الحليب يجب أن يكون من بقرة واحدة. وقد كان أحد المزارعين الصغار الجزائريين يسكن غير بعيد عن مسكن عائلة “سبورتيس"، يتولى يوميا إحضار الحليب للرضيع “وليام". ويعلق هذا الأخير على ذلك قائلاً: “هذه القصص رُوِيَتْ لي وقد أثرت فيَّ كثيراً..".
ومثل الكثير من المسلمين واليهود، كانت أمه تتحدث بالعربية ولا تعرف الفرنسية، أما والده فلم يدخل المدرسة سوى في سن الحادية عشر. في تلك المدينة (وهي أفضل حالا من المدن الأخرى)، يقول بأن العلاقة بين المسلمين واليهود جيدة حتى وإن كانت معقدة نوعا ما، مما دفعت اليهود إلى “الاِنزواء" في الحي اليهودي. وهذا دون أن ينسى الإشارة إلى وضع الذمي غير المتكافئ. ولكن تلك العلاقة مثلما يقول لم تصل إلى ما وصلت إليه في أوروبا. وبمرارة مفهومة، يتحدث “سبورتيس" عن أحداث يوم 5 أوت 1934 في قسنطينة. في ذلك اليوم، هاجم مئات “الجزائريين" من قسنطينة وجوارها يهود المدينة وحطموا ونهبوا ما يقارب من 200 محل من محلاتهم وقتلوا 25 يهوديا. يومها كان “وليام" في العاشرة من عمره، وكانت عائلته تسكن حي “جنان الزيتون" إلى جانب عائلات يهودية أخرى. يقول: “أتذكر جيدا كيف سارت الأمور في حيِّنا “جنان الزيتون"، لم يحدث شيئا وإذا لم يحدث شيء لأنه، ببساطة، تولى مسلمو حينا حماية اليهود. وقد توجهوا، مباشرة، إلى مثيري أحداث الشغب ليقولوا لهم إذا جاءوا إلى الحي فإنهم سيجدونهم في طريقهم. كما روت الكثير من العائلات اليهودية في المدينة التضامن الذي وجدته لدى الجيران المسلمين أكثر مما وجدته لدى الأوروبيين..."، وهو ما تكرر في قسنطينة وفي غيرها في عهد حكومة “فيشي" الموالية للنازية والتي اِضطهدت اليهود.
ويفسر “سبورتيس" هذه المذبحة (التي ليست الأولى من نوعها في الجزائر إذ سبقتها مذابح خلال سنوات، قضية دريفوس"، التي وقعت في العشرية الأخيرة من القرن الماضي ومست الجزائر المستعمرة) فيذكر بسياق عام 1934، الذي حدثت فيه مجاعة وظهر فيه وباء “التيفوس" أثار تذمر الفلاحين. كما شهدت الجزائر، وخاصة مدينة قسنطينة صراعاً سياسيا خاضه المسلمون بقيادة الدكتور بن جلول وجمعية العلماء للمطالبة بمساواتهم مع الأوروبيين، وكل هذا في سياق تصاعد قوة النازية التي كانت تستعرض عضلاتها. هذا الواقع أخاف فئة كبار المعمرين التي حرفت مجرى هذه المعركة السياسية لتحوله إلى صراع عنصري. وقد وجدت ضالتها في يهودي عسكري مستفز شتم المصلين أمام مسجد سيدي الأخضر في مساء يوم 3 أوت، فاِندلعت أحداث في ذلك المساء وفي يوم الغد قبل أن تتعاظم في يوم 5 أوت وتحدث المأساة. وللأسف، فقد وقعت مأساة مثيلة لها في يومي 12 و13 ماي 1956. في ذلك اليوم، ألقيت قنبلة يدوية على مقهى يهودي فاِنتقم اليهود بأن هاجموا المسلمين وقتلوا ما بين 61 مسلما، حسب مصادر جبهة التحرير الوطني، التي لم تتبن العملية و9 قتلى مسلمين حسب مصدر فرنسي. في ذلك الوقت، كان “سبورتيس" مسؤولا عن الحزب الشيوعي في قسنطينة وأعد منشورا وزعه في المدينة وخاصة بين اليهود ندد فيه بموقف “بعض عناصر الشرطة التي كانت تساعد أشخاصا كانوا منتظمين في ميليشيا كانت ترتكب أعمالا انتقامية ضد عمال مسلمين مسالمين". وشجب “رجعيي قسنطينة" الذين “يسعون بكل الوسائل، لتحريف كفاح شعبنا التحرري ولكي يعطوه صبغة عنصرية".
اليهود أبناء هذا البلد منذ قرون وهدف كريميو “إقامة قاعدة ديموغرافية اِستعمارية"
وبالنسبة لسبورتيس وأمثاله، فإن اليهود أبناء هذا البلد منذ قرون عديدة، وفي هذا يقول: “من جهتي، لم أعرف تاريخ بلدي في الثانوية، بل عرفته داخل الحزب الشيوعي الجزائري، لقد فهمنا أن آباءنا كانوا يعيشون في الجزائر منذ قرون [...] ولما نكون صادقين، فإننا مضطرين لأن تكون لنا نظرة متبصرة لمرسوم “كريميو"، فالجنسية الفرنسية لم تُمنَح لنا حُبّاً فينا. لقد كان الدافع إلى ذلك بالخصوص هو اِستخدامنا للتغلغل في المجتمع الجزائري الذي كنا جزءا منه، وذلك حتى يتوفر المستعمرون على قاعدة ديموغرافية فرنسية أكثر أهمية في الجزائر. إن مناورات التغلغل والتقسيم الاِستعماري لا تحتاج للتدليل عليها...". هذا الاِنتماء ليس كلاما فارغا، ففي هذه العائلة لم يكن “ويليام" هو الوحيد الذي اِنخرط في معمعة صراع التحرر الوطني، فأخوه “لوسيان" المعلم المناضل الذي عرفته قرى آقبو، بمنطقة القبائل وأم البواقي، كان مناضلا ضد اِستغلال كبار المعمرين لعمال المزارع الفقراء. وقد تم طرده من عمله كمعلم بسبب قناعاته اليسارية، وأدخل السجن بتهمة “التظاهر ضد السيادة الفرنسية في الجزائر"! ومات أثناء كفاحه ضد النازية في مدينة “ليون". وأخوه “برنار" كان مناضلاً وطنيا هو الآخر. وبتواضع يسعى سبورتيس إلى تفادي الحديث عن نفسه أو عائلته ويشير إلى عدة عائلات يهودية يعرفها شاركت في حرب التحرير الوطني من ذلك عائلة “حليمي" التي يقول عنها إن أغلب أفرادها شاركوا في الثورة بمن فيهم ثلاث نساء.
منذ ريعان شبابه، اِنخرط “وليام سبورتيس" في الكفاح من أجل التحرر الوطني والاجتماعي، وقد مارس ذلك في المنظمات الشبابية وفي الحزب وفي الصحافة في ذلك الوقت. وفي صحيفة “لاجون ألجيري"، في أربعينيات القرن الماضي، كان يكتب عن الوطن، الجمهورية الجزائرية، اِمتلاك الفلاحين لأراضيهم وترسيم اللغة العربية وغيرها من المطالب. كما كتب منتقدا موقف الحزب الشيوعي من أحداث ماي 1945. ولكنه يستطرد: “ألم يخطئ الآخرون؟ وفي هذا يتساءل “سبورتيس" أليس هناك، على سبيل المثال، فرق كبير بين “موريس طوريز"، زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي الذي تحدث عن “أمة جزائرية في طور التكوين" وبين فرحات عباس الذي قال إنه لم يجد الأمة الجزائرية حتى في المقابر؟. المهم هو الاِستفادة من الدروس. وهو ما سعى إلى المشاركة فيه هادفا إلى زيادة تعاون الشيوعيين مع باقي فصائل الحركة الوطنية.
حصته الإذاعية في 1954، قبل الثورة، تثير سخط “لاكوست" والحكومة
إذن، بالنسبة للذين لم تعميهم الدعاية الاِستعمارية، كانت المشاركة في تحرير البلاد واجبا وطنيا، وهذا هو حال “سبورتيس". ومن الأفضل هنا، إيراد أمثلة من باب “وشهد شاهد من أهلها". في 1953، قررت الأحزاب الشيوعية المغاربية بث حصة إذاعية باللغة العربية، ثلاث مرات في اليوم، اِنطلاقا من إذاعة “بودابيست" بالمجر، الحصة التي سُميت “صوت الاِستقلال والسلم" بدأت البث في أواخر شهر ماي 1954، وكان “سبورتيس" مسؤولا عنها، الحصة أثارت سخط الساسة الاِستعماريين، ففي برقية إلى وزارة الخارجية الفرنسية، كتب “روبير لاكوست" الذي كان، وقتها، المقيم الفرنسي العام في المغرب، متحدثا عن الحصة بأنها جزء من “الحرب النفسية"، مضيفا، بأنها بلا شك، رد على التشويش الذي تعرض له “صوت العرب". حصة “صوت الاِستقلال والسلم" أسالت العرق البارد للإدارة الاستعمارية خاصة بعد اِنطلاق الثورة. وقد مارست الحكومة الفرنسية ضغوطا كبيرة على المجر حتى توقف الحصة وهو ما حدث في أكتوبر 1955. واليوم من يعرف من الصحفيين الجزائريين هذه الصفحة المشرقة من نشاط أحد أسلافهم؟
توقفت الحصة، عاد “سبورتيس" وزوجته “جيلبرت" إلى الجزائر، وخلال إقامة قصيرة في مدينة الجزائر لدى عائلة “هنري مايو" أخبره هذا الأخير بأنه قرَّر الهروب بشاحنة أسلحة إلى الجبل. وأعلم “سبورتيس" البشير حاج علي، زعيم الحزب، الذي أخبر بدوره مسؤولي جبهة التحرير الوطني بذلك، وهذا ما حدث فعلا. وقد ساعدت هذه العملية على تراجع نسبي للأحكام المسبقة التي كانت لدى الجبهويين إزاء الشيوعيين الجزائريين.
وفيما بعد قد كلفه الحزب الشيوعي الجزائري بالذهاب إلى قسنطينة المدينة، التي يعرفها جيدا ويعرف مناضليها الوطنيين واليساريين. وهناك بقي يناضل إلى غاية الاستقلال، باِسم “عمر". وقد تكفل بتنسيق العمل المسلح مع المجاهدين في وادي العثمانية وعين السمارة، كما يقول. كما تكفل بالدعاية ونشر وتوزيع المنشورات والمجلات وغيرها.
ولكن سلطة 1962 اِعتبرته أجنبيا ودعته لطلب الجنسية؟!!
قبل الاِستقلال، وبالضبط في ماي 1962، حرَّر “سبورتيس" منشورا تم توزيعه في قسنطينة وعدة مدن أخرى، طالب فيه بتجسيد شعار “الكلمة للشعب" وهو شعار كان يكتبه الوطنيون على الجدران في سنة 1947. هل وفى القادة الجدد بذلك؟ الأحداث التالية لا تدل على ذلك، ففي نوفمبر 1962، قرر الرئيس “أحمد بن بلة" حل الحزب الشيوعي الجزائري.
والتحق “سبورتيس" بجريدة “ألجي ريبوبليكان" حيث عمل سكرتير التحرير، ليعمل رفقة مناضلين آخرين أمثال “هنري أليغ" وعبد الحميد بن زين وغيرهما.. وإلى جانب ذلك، كان يناضل في إطار الحزب بطريقة سرية رغم حله.. إلى أن جاءت حركة 19 جوان 1965، حيث أطاح بومدين بالرئيس بن بلة. وكان رد الحزب الشيوعي آنذاك هو الوقوف ضد الاِنقلاب وتأسيس “منظمة المقاومة الشعبية" التي جمعت الشيوعيين وشخصيات من جبهة التحرير رافضة لمسلك بومدين. يقول “سبورتيس" بهذا الخصوص: “كان هدف منظمة المقاومة الشعبية هو تجميع قوى المقاومة في وجه الانقلاب والدفاع عن الاِختيار الاِشتراكي واِحترام المؤسسات الديمقراطية والإفراج على كل من أوقفوا بطريقة غير شرعية، ومنهم الرئيس بن بلة. لقد كانت أهداف هذه المنظمة عادلة. ولكن النزعة الغالبة داخلها نزعة المعارضة الصدامية مع السلطة من أجل الإطاحة بها في أقرب الآجال كانت نزعة غير عادلة. وهذه النزعة لم تكن واقعية، إذ هي تفرط في تقدير قوة الجماهير في التدخل ولا تراعي ميزان القوى ولا رأي الجماهير ولا حتى آجال نضج العقليات. وأبدى بعض أعضاء جبهة التحرير المعارضين للاِنقلاب هروباً إلى الأمام، إذ كان بعضهم يرغب في الوصول حتى إلى الكفاح المسلح، و قد حاولوا تنظيمه، بطريقة منفصلة، وهذا دون أن يخبروا قيادة منظمة المقاومة الشعبية...".
وكان رد السلطة الجديدة هو الزج بهؤلاء في السجون، فأدخل “وليام سبورتيس" سجن “لامبيز" في باتنة، رفقة عدد من رفاقه مثل “البشير حاج علي"، إلى غاية 1968، ثم نقل إلى سجون أخرى بغرب البلاد، قبل أن يوضع تحت الإقامة الجبرية إلى غاية 1974. وهذا الوضع لم يدفعه إلى الحقد والتآمر، مثل أطراف معارضة أخرى وجدت نفسها في أحضان الملك الحسن الثاني وغلاة الجزائر الفرنسية. بل بقي رجل عدل وإنصاف، فعلى إثر عدوان إسرائيل على البلدان العربية في جوان 1967، بعث من سجنه رسالة إلى الرئيس “هواري بومدين"، مما جاء فيها: “من خلال ممارساتها، اِصطفت دولة إسرائيل، دوما، إلى جانب الاِمبريالية [...] ولذا، وبصفتي يهوديا جزائريا عانت عائلته من الهتلرية، فإنني أنكر على هذه الدولة، التي لا تدين العنصرية وتمارسها إزاء عرب فلسطين، أنكر عليها حق تقديم نفسها ك “مدافع" عن مصالح الفئات العريضة ذات الأصل اليهودي. إن هذه الدولة هي، أساسا، المدافع عن مصالح الشركات الرأسمالية الكبرى والاِمبرياليين والذين يوجد من بينهم يهود...".
وبعد سجن لامبيز اٍنتقل إلى سجن عمي موسى ثم سجن وادي رهيو وفي 1968، وضع تحت الإقامة الجبرية في مدينة تيارت إلى غاية 1974. وهنا، ورغم الحصار الذي حاول فكه عنه مواطنون مناضلون لم يعجبهم ما يعانيه “سبورتيس" وأمثاله. وفي “ تيارت" ساهم في إنشاء أول خلية لحزب الطليعة الاِشتراكية (الباكس) كانت مكونة من مناضليْن إثنيْن. وعندما عاد إلى تيارت في 1990، كان عدد المنخرطين في هذا الحزب في تيارت 100 مناضل. وهو ما دفعه إلى التعليق التالي: “إن هذه الإقامة الجبرية اِنقلبت على أولئك الذين أرادوا إسكاتنا".
وللأسف، أرغم في 1994، على مغادرة الجزائر: “إننا نعود باِنتظام إلى الجزائر، ولكن الإقامة فيها من جديد أصبحت جد معقدة، إننا جد متقدمين في السن"، إنه في مشارف التسعين من عمر حافل يعترف كاتب هذه السطور بأنه لم يفيه حقه.
للموضوع إحالات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.