الفريق أول السعيد شنقريحة : "القيادة العليا للجيش تولي اهتماما كبيرا للاعتناء بمعنويات المستخدمين"    عطاف يستقبل بالرياض من قبل رئيس دولة فلسطين    مشروع بلدنا سيجلب المزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى الجزائر    جدد دعم الجزائر لجميع القضايا العادلة في العالم.. قوجيل يشجب تقاعس المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية    عكس اللوائح .. قرار يصدر "الكاف": هل ستجرى مباراة إياب نصف نهائي بين اتحاد العاصمة ونهضة بركان؟    الجولة 24 من الرابطة المحترفة الأولى "موبيليس": تعادل منطقي في داربي الشرق بين أبناء الهضاب وأبناء الزيبان بين والساورة تمطر شباك اتحاد سوف بسداسية كاملة    بيانات موقع "ترانسفير ماركت" العالمي: الإسهام رقم 20 ..عمورة ينافس صلاح وتيسودالي في إحصائية مميزة    أمن دائرة بابار : معالجة قضايا وتوقيف أشخاص وحجز مخدرات    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    الطاهر ماموني : المحكمة العليا حريصة على مواكبة جهود الدولة في مجال الرقمنة    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    استفادة كل ولاية من 5 هياكل صحية على الأقل منذ 2021    تقرير لكتابة الدولة الامريكية يقدم صورة قاتمة حول حقوق الانسان في المغرب و في الأراضي الصحراوية المحتلة    عطاف يستقبل رئيس مفوضية مجموعة "إيكواس"    الدورة الدولية للتنس بتلمسان : تتويج الجزائرية "ماريا باداش" والاسباني "قونزالس قالينو فالنتين" بلقب البطولة    ألعاب القوى/ الدوري الماسي-2024 : الجزائري سليمان مولة يتوج بسباق 800 م في شوزو    وزير الداخلية: الحركة الجزئية الأخيرة في سلك الولاة تهدف إلى توفير الظروف الملائمة لإضفاء ديناميكية جديدة    عين ولمان في سطيف: تفكيك شبكة ترويج المخدرات الصلبة "الكوكايين"    وزير النقل : 10 مليار دينار لتعزيز السلامة والأمن وتحسين الخدمات بالمطارات    العدوان الصهيوني على غزة: سبعة شهداء جراء قصف الاحتلال لشمال شرق رفح    بن ناصر يخسر مكانه الأساسي في ميلان وبيولي يكشف الأسباب    جيدو /البطولة الافريقية فردي- اكابر : الجزائر تضيف ثلاث ميداليات الي رصيدها    بوغالي يؤكد من القاهرة على أهمية الاستثمار في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي    أهمية مركزية لمسار عصرنة قطاع البنوك وتفعيل دور البورصة في الاقتصاد الوطني    محسن يتكفل بتموين مستشفى علي منجلي بخزان للأوكسيجين بقسنطينة    جسدت التلاحم بين الجزائريين وحب الوطن: إحياء الذكرى 66 لمعركة سوق أهراس الكبرى    فايد: نسبة النمو الإقتصادي بالجزائر بلغت 4,1 بالمائة في 2023    حوادث المرور: وفاة 16 شخصا وإصابة 527 آخرين بجروح خلال 48 ساعة الأخيرة    برج بوعريريج : فتح أكثر من 500 كلم المسالك الغابية عبر مختلف البلديات    ندوة وطنية في الأيام المقبلة لضبط العمليات المرتبطة بامتحاني التعليم المتوسط والبكالوريا    النشاطات الطلابية.. خبرة.. مهارة.. اتصال وتعاون    الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات: مضمار الرياضات الحضرية يستقطب الشباب في باب الزوار    غزة: احتجاجات في جامعات أوروبية تنديدا بالعدوان الصهيوني    42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    نحو إعادة مسح الأراضي عبر الوطن    توقيف 3 أشخاص بصدد إضرام النيران    الكشافة الإسلامية الجزائرية تنظم اللقاء الوطني الأول لصناع المحتوى الكشفي    تفاعل كبير مع ضيوف مهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة : بن مهيدي يصنع الحدث و غزة حاضرة    ندوة ثقافية إيطالية بعنوان : "130 سنة من السينما الإيطالية بعيون النقاد"    مهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة: الفيلم الفلسطيني القصير "سوكرانيا 59" يثير مشاعر الجمهور    شهد إقبالا واسعا من مختلف الفئات العمرية: فلسطين ضيفة شرف المهرجان الوطني للفلك الجماهيري بقسنطينة    رئيس لجنة "ذاكرة العالم" في منظمة اليونسكو أحمد بن زليخة: رقمنة التراث ضرورية لمواجهة هيمنة الغرب التكنولوجية    بطولة الرابطة الثانية: كوكبة المهدّدين بالسقوط على صفيح ساخن    بهدف تخفيف حدة الطلب على السكن: مشروع قانون جديد لتنظيم وترقية سوق الإيجار    تجاوز عددها 140 مقبرة : جيش الاحتلال دفن مئات الشهداء في مقابر جماعية بغزة    بلمهدي يلتقي ممثلي المجلس الوطني المستقل للأئمة وموظفي قطاع الشؤون الدينية والأوقاف    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن مرافقة الدولة لفئة كبار السن    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    على السوريين تجاوز خلافاتهم والشروع في مسار سياسي بنّاء    استغلال المرجان الأحمر بداية من السداسي الثاني    ضرورة وضع مخطط لإخلاء التحف أمام الكوارث الطبيعية    قصص إنسانية ملهمة    "توقفوا عن قتل الأطفال في غزة"    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر عاشور فني ل "الأثر": النخبة هي مفتاح الدولة المدنية التي قام الحراك الشعبي من أجلها
نشر في الجزائر نيوز يوم 30 - 09 - 2013

الدكتور عاشور فني أحد الذين يكتبون على بينة من أمرهم، وهو إذ يصدر، إنما يصدر عن معرفة وتأصيل لا يتوفران إلاَ عند صاحب بصيرة وإدراك، من النواحي الاجتماعية والثقافية والفنية والجمالية. وتعد كتاباته إضاءة حقيقية لموضوعات عولجت أحيانا ببعض الاستخفاف، أو تحت تأثير الظرف، دون قراءة النتائج المترتبة عن مواقف قد تحتاج إلى الإحاطة بجذورها ومساراتها وغاياتها. ما يكتبه الدكتور عاشور فني يكتسب قيمة معرفية لا جدال فيها، كما يحيل على شخصية ذات تكوين استثنائي، وهو إضافة إلى قدراته التحليلية العميقة، حاضر باستمرار في القضايا الهامة التي ترتبط بالتحولات ورهانات المستقبل.
دون أن يغفل السياقات والمرجعيات التي تضيء المعنى وملابساته. أستاذ بالجامعة الجزائرية، شاعر ومترجم شارك في عدة نشاطات، كما كان له دورا مهما في بعض السياسات العمومية المتعلقة بالتنمية الاجتماعية واستراتيجية الاتصال لترقية حقوق الطفل، بالتعاون مع بعض الهيئات الحكومية والأهلية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة.
جئت إلى القصيدة العمودية من قصيدة التفعيلة عابرا إلى قصيدة النثر، على عكس المسار المألوف. فالحداثة عندي كانت المنطلق وهي الأفق. "عمود الشعر" في بعض قصائدي لا يتجاوز المستوى العروضي. أما الرؤية والتعبير واللغة فلا تخضع لنمطية العمودي. يرتبط الأمر بتكويني العصامي، حيث كانت لي حرية الاختيار فيما أقرأ وفي ما أرى وفي ما أكتب، ولم أخضع لاستبداد أساتذة اللغة. تعمقت قراءاتي التراثية في الشعر وتاريخ الجزائري الثقافي مع تطلعي للحداثة باعتبار ذلك احتياجا ذاتيا للتأصل واكتساب الزاد المعرفي الضروري للتطور، لا باعتباره نكوصا إلى الماضي أو تقوقعا على هوية ماضوية. هويتي هي ما أفتحه من أفق لي ولثقافتي في مسرح الثقافات الحية المتعدد. لم أعتبر الشكل قضية أساسية في الشعرية، بل التجربة الشعرية هي محرك الإبداع. النص ليس كيمياء لفظية بل هو أثر التجربة الحية. أما شكل النص فهو نتيجة نضج التجربة وأهليتها لفرض شكلها على الشاعر والقارئ معا. تعدد أشكال الكتابة عندي هو نتيجة هاجس بحث دؤوب. بحث إبداعي في أشكال الكتابة الشعرية الممكنة وبحث نظري وانشغال معرفي. لم أغلق الأبواب القديمة لكنني حاولت دائما فتح أبواب جديدة. نصوصي مفتوحة على مواقف الحياة وعلى الممكن من الأشكال الكتابية والممكن من اللغات الشعرية: من القصيدة النثرية إلى العمودية إلى قصيدة النثر. لم أستعجل الهجرة إلى شكل جديد حين لم تكن لدي الكفاءة اللازمة لذلك.
حين قادني البحث إلى أبواب تجربة جديدة لم أتردد لحظة. خضت تجربة الهايكو بهاجس إحلال الصورة محل اللفظ: تقليص اللغة إلى حدها الأدنى. هاجس القبض على اللحظة الشعرية في تشكلها خارج اللغة وخارج أطر التعبير. اللحظة الشعرية التي يمكنها أن تنبثق من تجربة أي موقف جمالي في الحياة وتتجسد في قصيدة أو في قصة أو فيلم أو لوحة أو بحة صوت أو حركة قفز من الطابق السابع نحو الطابق الحادي عشر. مطر البارحة صاعدا باتجاه الغيوم. بعض القصائد لن يكتب لها أن تكتب على الإطلاق. تظل صورا خاطفة وكفى. لكن بعض ما كتبت يوضح تطور رؤيتي للشعر وللقصيدة. فالموقف الشعري أوسع من القصيدة. والبحث فيه أهم من البحث عن شكل القصيدة. بعض القصائد تحاول قول لحظة شعرية مرت في الحياة وسجلت أثرها في النص بشكلها الخاص. أشكال الكتابة المعروفة لا تتسع لكل اللحظات الشعرية في الحياة. لذلك ظهرت الفنون والأنواع الأدبية الأخرى على هامش النص الشعري. أجمل الأشعار هي التي لا تكتب أبدا. لأنها تتجاوز كل الأشكال.
كانت اللغة هوسي الأكبر. لكن اللغة أيضا تنمو مع التجربة في الفكر والحياة. نصوصي الشعرية الأولى تنطلق من تراث الحداثة العربية إلى درويش. لكنني حين قرأت الأعمال الكاملة لدرويش في بداية الثمانينيات توقفت عن الكتابة وأعدت ترتيب ثقافتي بهدوء. تعددت قراءاتي النقدية والفلسفية في الوقت الذي اخترت تخصص النظرية الاقتصادية في جامعة الجزائر. توسعت قراءاتي الشعرية إلى اللغة الفرنسية.
أذهلني بول إيلوار. كان دليلي إلى الشعرية خارج الأطر التقليدية: حيث الحياة صورة وحيث الصورة لغة أوسع من اللغة. هناك اكتشفت مصدر الحداثة في القصيدة الغربية: المدرسة التصويرية كانت طريق القصيدة الحديثة الإنجليزية نحو مصدرها الشرقي: قصيدة الهايكو اليابانية. قصيدة الحداثة الفرنسية أخذت طريقا آخر: الانفتاح على الآخر الفكري والجمالي واللغوي الهامشي واليومي. تجاوز الراهن بالعودة إلى المصادر الأصلية للإبداع برؤية أكثر تفتحا: ربط القصيدة بمنابع الجمال في الحياة ذاتها. لم يقيض هذا للقصيدة العربية التي اكتفت بمصدر وحيد أحادي للحداثة. هكذا انطلقت الحداثة العربية في الأربعينيات من مصدر غربي هو نفسه يبحث عن تأصيل. مع موقف نكوصي نحو اللغة الصوفية مجردة من تجربتها الروحية والفكرية الراقية.
تزداد القصيدة الحديثة في اللغات الحديثة قربا من الحياة اليومية ويزداد نموذج القصيدة العربية إيغالا في الانغلاق. يصبح التحدي الأكبر تجاوز النموذج الجاهز بما فيها نموذج الحداثة نفسه. مأزق الحداثة في الشعر العربي أنها تزداد تعقدا مع تطور العالم نحو الانشغال باليومي وبالبسيط. الحداثة في جوهرها رؤية تنزع نحو تجاوز الأشكال الجاهزة لكنها أصبحت في ظل الثقافة العربية نماذج جاهزة تحتاج هي نفسها إلى من يتجاوزها. إنها حداثة تقليدية جدا تلك التي شاعت وأصبحت حجة على الحداثة، لا أفقا لها. تبدأ الحداثة بالاشتغال على الذات والرؤية لتجاوز الراهن إلى ما هو ممكن لا باحتذاء نماذج إبداعية أو نقدية كانت تعتبر فتحا في وقتها لكن تجاوزتها التجربة الشعرية. العقلية التقليدية صنعت "نموذجا" للحداثة ووظفته لمنع التجريب والابتكار والخروج عنه. نموذج يرجع إلى أصل خارج سياق الثقافة العربية التي تنزع نحو التقوقع أكثر بقدر ما يزداد ذلك النموذج تصلبا. هكذا انهار مشروع الحداثة الذي أصبح هامشيا في خليط من المشاريع النكوصية باسم البحث عن "الحداثة" في التراث. من انطلق من ذاته لا يحتاج إلى إثبات ملامح النموذج في تاريخه أو حاضره، بل ينطلق نحو الإبداع بثقة وعن امتلاء بالتجربة الذاتية واقتدار على الإبداع. أصبح للحداثة في الشعر الآن "نماذجها" التقليدية جدا. تحطيم النموذج الجاهز والكتابة خارج النموذج أو حسب نماذج ذاتية متعددة هي انعكاس لموقف إبداعي واع يرفض الارتهان للنموذج الجاهز الذي تقترحه الحداثة المنقوصة. الحداثة التي تكتفي ببعض الملامح الغربية في التراث دون نقد جذري للنموذج الغربي ولا التراثي بل العمل على التوفيق بينهما أو الانتصار "للنموذج" البديل للنموذج التقليدي. تلك عقلية غير حداثية: فرض صنم الحداثة بدلا من صنم التراث، في حين أن المطلوب هو تجاوز الصنمية. تلك هي الحداثة.
الحداثة قضية نقدية خطيرة. ارتبطت في المجتمعات الحديثة بطرح أسئلة الفكر وأسئلة السلطة والحرية الشخصية. الحداثة بالمفهوم المتداول لا تقتصر على الشعر والنصوص الأدبية، بل رؤية للحياة الشخصية والجماعية وطريقة تنظيم للسلطة السياسية وللحياة الفكرية. جوهرها الحرية. وقد دافع عنها أجيال من المفكرين والمبدعين أمام مؤسسات المجتمع التقليدي وانتصرت لأن المجتمع الحديث اعتنق مبادئ الحرية ورفض الوصاية على الفكر. هذه الرؤية الحداثية تحمل معها لغتها وطرائق تعبيرها ورؤاها الجمالية. حدث هذا في المجتمعات الغربية منذ فلسفة الأنوار. تجسدت الحداثة في نظام الحكم الديمقراطي وفي نظام اقتصاد السوق الليبرالي وفي مبادئ حقوق الإنسان، وخاصة حرية التفكير والتعبير التي انتزعتها الشعوب الأوروبية من الملوك المستبدين بدساتير فرضت احترامها على السياسيين المنتخبين على أساس الكفاءة. تلك عظمتها. الحداثة في الشعر الإنجليزي مثلا ليست سابقة للحداثة في الفكر والسياسة والاقتصاد. الحداثة في القصيدة شكلت نهاية العصر الفيكتوري. لكن هذه الحداثة الغربية نسبية من وجهة نظري. فهي مثلا لم تقف ضد الاستعمار واستغلال الشعوب والثقافات الأخرى.
حين تكون الثقافة عاجزة عن طرح أسئلتها الخاصة ورافضة للتنوع في داخلها وتلجأ إلى "استيراد" قضايا مطروحة في ثقافات أخرى فذلك تعميق للأزمة. تلك هي حالة الثقافة العربية التي بدأت مع النهضة بالبحث في ذاتها ثم انتهت إلى البحث عن تصور عن مستقبلها في قضايا مستقاة من الراهن الثقافي الغربي: في الشعر نجد أن الحركة الأدبية اعتنقت مذاهب الشعر الرومانسي والقصيدة الحرة وقصيدة النثر. طرحت كل تلك القضايا انطلاقا مما كان موجودا لدى الآخر. لم يكن سؤال الحداثة منبثقا عن حاجة ذاتية. لن تفيد كل النظريات ولا النماذج النصوصية في إنتاج نص حداثي في ثقافة لم تطرح سؤال الحداثة بشكل صحيح. أما النظرة الانتقائية للتراث ومحاولة بناء انحيازات في الماضي تستجيب لتشنجات الحاضر فقد كشفت عن حدودها، فكريا وإبداعيا، رغم أنها كشفت عن الطاقات التي تختزنها الثقافة العربية بتنوعها الكبير. هذا الذي تسميه المثاقفة الأحادية هو في رأيي نتيجة منطقة للبنية الأحادية التي طبعت الثقافة العربية منذ قرون الانحطاط، ثم أصبحت سمة مميزة للحداثة نفسها. ضيق الأفق ورفض المختلف وإدانة السؤال باعتباره خروجا عن المألوف أو تشويشا على جنة الركود العام. مناقشة النموذج الحداثي خضعت لشيء من ذلك. فالخروج عن النموذج الحداثي المفروض يلاقي نفس مصير الخروج عن النموذج التقليدي: الإدانة. تحفل الصفحات الثقافية في الصحف العربية بما يؤيد ذلك. لقد أصبحت الحداثة نفسها قالبا جاهزا يمكن لأي مبتدئ أن يحتذيه و"ينتج" نصوصا حداثية لا تقل نمطية في حداثتها عن النصوص التقليدية التي انتقدها الحداثيون الأوائل. اللغة نفسها والصور النمطية المتكررة في القصائد والروايات والمقالات النقدية تعتاش من اللغة نفسها التي ولدتها الأزمة وانفصلت عن الواقع نهائيا: واقع الناس وواقع النصوص. لكن السير مع اتجاه التيار الجارف نحو "التقليد الحداثي" فرضته وسائل الإعلام والدوائر المشرفة على نشاط الاتصال التجاري. تكفي كلمات وإشارات منمطة للحصول على قبول عام من جماهير الحداثة الطيبة. هكذا فرضت وسائل الإعلام نماذج جاهزة وأسماء لامعة تمارس سطوة في الساحة الثقافية العربية أصبحت هي نفسها عقبة أمام الحداثة. مما دفع ناقدا مثل عبد الله الغذامي إلى طرح سؤال خطير: هل الحداثة الشعرية العربية حداثة رجعية؟ معلنا نهاية النقد الجمالي ومؤسسا للنقد الثقافي: أي نقد النسق الذي حول الحداثة ذاتها إلى نموذج جاهز بوصفه شكلا من الأشكال المقلدة. هذا داخل الثقافة العربية. وأما على المستوى الخارجي فإن عصر الاتصال فرض قوالب للثقافة العربية لا ينظر إلى "الإبداع" العربي إلا من خلالها. قوالب تشكلها استيهامات الثقافة الغربية التي تدعم تفوقها بما تفرضه من صفات للآخر الثقافي: العنف الاجتماعي والقهر الجنسي والاستبداد السياسي. النصوص التي لا تستجيب للنموذج تشطب من الفهرس الثقافي المتداول. لا تصل إلى الصحف الكبرى ولا إلى الملتقيات واللقاءات الثقافية ولا إلى الترجمة ولا إلى دور النشر العالمية. يكون على النص الإبداعي واجب احتذاء النموذج المطلوب ليمكن له أن يمر إلى السوق المسيجة بأرمادة تسويقية للأسماء اللامعة المتطابقة مع الاحتياجات العميقة للقارئ الغربي: البحث عن الغرابة. وهكذا بقدر ما يزداد "نموذج" الحداثة غربة في السوق العربية يزداد "النموذج" المسوق في الخارج غرابة عن واقع الثقافة.
حين ننتقل إلى الحديث عن واقع الثقافة في الجزائر تظهر المشكلة أعمق بالنسبة للنصوص الشعرية الجزائرية. فقد انطلقت من اغتراب مزدوج: اغتراب الحاضر الشعري العربي العام واغتراب عن الراهن الثقافي الجزائري محاولة الاستعاضة عنه بتاريخ ثقافي عائم بين القصيدة الجاهلية ونمط قصيدة التفعيلة أو النثرية. في غياب فضاءات ملائمة في الجزائر أصبحت وجهة النصوص الجزائرية الساحات المشرقية بحثا عن الشرعية في بلد الدعوة للحداثة أو الدفاع عن التقليد. يصعب أن تعثر في بعض النصوص على ارتباط بالأرض أو بالمخيال أو بالإرث الثقافي المتراكم عبر السنين. اغتراب صاحب النص عن تربته الثقافية واغتراب "النموذج" المستورد من المشرق عادة. الدارجة المشرقية تغزو النصوص السردية والقصائد الشعرية ومقالات النقد. أستثني من يشتغلون على النص بوعي ثقافي يحمل نكهة الثقافة الجزائرية العميقة عاكفين على ذواتهم وعلى نصوصهم بخبرة وصبر واقتدار وبدأب. هذه النماذج لا تجد المساحة الكافية في وسائل الإعلام لفرادتها وبعدها عن الإسفاف. أسماء كبيرة فرضت نفسها في الفلسفة والفكر والشعر والرواية لكنها بنوع من الرفض للنموذج الفكري الثقافي الجزائري الإبداعي المتميز في الفلسفة والفكر والفن والشعر. لا بد من نموذج معوق بملامح مشوهة، يكون مقبولا في السوق العربية أو الغربية لكي يتم قبوله تاليا في الجزائر، بشروط عادة.
من هنا تبدأ تلك اللعبة العبثية: البحث عن منفذ في الخارج لفرض النموذج والاسم الذي يحمله في الداخل باعتبار أنه حصل على شهادة النجاح من "هناك". يمكن أن يكون هذا ال "هناك" في المشرق أو الغرب. ما قامت به في السابق المهرجانات الرسمية والصفحات الأدبية في الصحف من انتقاء للأسماء والنماذج "الحداثية" المقبولة تقوم به الآن بعض الجمعيات ودور النشر في ظل تدفق أموال الدعم التي تغدقها الوزارة على الناشرين غير المحترفين. منهم شعراء وصحافيون وكتاب أصبحوا ناشرين لقربهم من الوزارة صاروا يحكمون ذائقتهم في اختيار النماذج التي يسوقونها بأموال الدعم العمومي.
لم يتغير وضع الكتاب والشعراء كثيرا رغم ظهور طلب غزير يقف وراءه قارئ ذكي نبيه ومميز متعطش لقراءة النص الجزائري الذي يعبر عن طموحه الجمالي. لكن غالبا ما يقوم هؤلاء الناشرون بفرض النصوص التي ينتقونها، مع تهميش المؤلفين أحيانا. فبعض الشعراء نشرت كتبهم وسوقت في المعارض المختلفة ولم يحصلوا على نسخ منها ولا على حقوقهم. لا يختلف عن ذلك سلوك أرباب الجمعيات والإدارات الثقافية المشرفة على الأنشطة الثقافية في غياب المثقفين. فهذا الفيض من النصوص "الحداثية" يخفي وراءه سلوكا متخلفا يبدأ بالاحتيال على الشاعر، ثم على المال العام وعلى الساحة الثقافية كلها لأن معظم دعاة هذه "الحداثة" في السوق الجزائرية تحولوا بالصدفة إلى تجار كتب وبعضهم متورط بقضايا النصب والاحتيال على الشعراء والمؤلفين وعلى المؤسسات. هكذا يلتقي غياب الفكر الحداثي بالخواء الإبداعي والفراغ القانوني بغياب الأخلاق المهنية في النشر. ويتجسد ذلك في نوع من العدمية التي تطرح قضايا الحداثة المتطرفة في محيط من غطرسة التخلف الغاشم المتعدد الأوجه.
الملفت في التحولات التي جرت في البلدان العربية أنها انبثقت من أوضاع اجتماعية منفجرة ولم تكن نتيجة "وعي ثوري". كانت هذه التحولات نتيجة تدهور الأوضاع الاجتماعية ولم تكن نتيجة للتوعية والتطور الثقافي الذي كان يفترض أن تقوم به النخبة، دعوة إلى التغيير وتكريس الحريات والثورة على الاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي. وقد لاحظنا انحياز المثقفين والشعراء الحداثيين للعمل في الميادان، كما وقع في ميدان التحرير (ناصر فرغلي مثلا)، وفي تونس (المنصف المزغني وأولاد أحمد)، أو في اليمن (كرمان توكل). لكن فئة أخرى اتجهت نحو استغلال الثورة للاستحواذ على الأحداث وتحويلها لصالح الفئات المستتبة في الحكم، وهو عمل دعائي قام به عدد من الإعلاميين والشعراء المرتبطين بالمؤسسات الرسمية أو بالمؤسسات المالية في الخليج العربي خاصة. جهات تشرف على تحصين الجهل والتخلف وتدعيمه وتزويقه في بلادها توظف جيوشا من الإعلاميين والأدباء من أجل الدعوة لتحريك الأوضاع لتمكينها من ترتيب الأمور لصالح القوى التي تتحالف معها لدعم عروشها مدعية تدعيم الثورات بتمويل عودة الاستعمار إلى بلاد تحررت بتكاليف عالية. هذا جزء من الصراع الفكري حول معنى الثورة والديمقراطية وحدود فكرة الوطن. لا يمكن للحداثة أن تنمو في مناخ استبداد القبيلة والطائفة والحكم الفردي. لقد عبرت عن فكرتي بوضوح في العبارة التي أصبحت الآن شائعة: الاستبداد الداخلي حليف الاستعمار الخارجي. ونظام الدولة الوطنية أفضل من نظام الحكم العائلي، ولو كانت الأولى مستبدة والثانية "رحيمة". المؤسف أن كثيرا من الأسماء الثقافية قد أصبحوا بمثابة شيوخ خليجيين في الثقافة الجزائرية: يسمعون الجملة نفسها ويفهمون نصف الفكرة ويبادرون بسرعة إلى الشتيمة، ثم ينتقلون إلى حديث المال والجواري. هكذا ساهموا بسرعة في جر الحراك الشعبي العفوي إلى تدمير ذاتي بأسلحة الناتو بتهليل شيوخ الفتوى وبمباركة كثير من "المثقفين" الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء الالتفات إلى تحول "الربيع العربي" إلى "خريف إسلامي"، ثم بسرعة وقفوا ضد شرعية الثورة منتصرين للشرعية الانتخابية. على مرأى ومسمع الرأي العام استولت قوى الثورة المضادة على الأحداث وفرضت الأمر الواقع بالأداة الديمقراطية: الانتخابات. حتى البلدان الغربية رأت في ذلك وضعا ملائما. هذه خيبة كبرى في الثقافة السياسية والسياسات الثقافية معا. وفي الغرب السياسي كله.
وها هي الأمور تعود إلى وضعها العادي: صحوة القوى الشعبية والعودة إلى العمل على استكمال الأهداف الاجتماعية والسياسية التي قامت من أجلها هذه التحركات الشعبية: بناء دولة مدنية لا دينية ولا عسكرية. دولة الحريات والكفاءة والعلم والإبداع. نرجو أن يكون موقف النخبة أكثر توازنا. هناك فرصة لعودة المثقفين والكتاب إلى الارتباط بالقوى الشعبية بدلا من التصاقها بالقوى السياسية ذات الألوان الأيديولوجية البارزة. النخبة هي مفتاح الدولة المدنية التي قام الحراك الشعبي من أجلها. دولة المستقبل: دولة العقل والعدل والعلم والعمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.