إنعقاد الدورة الأولى للمجلس الإستشاري لمعرض التجارة بين البلدان الإفريقية بالجزائر    في 49 مؤسسة تربوية: توسيع دائرة تدريس اللغة الأمازيغية بالبرج    بئر العاتر بتبسة: مشاريع لإنجاز ثانوية ومتوسطة ومجمّعات مدرسية    عملية الجني انطلقت جنوب ميلة: توقع مردود يفوق مليون و 630 ألف قنطار من الثوم    يُعتبر الأكبر وطنيا وتعليمات بالإسراع في الإنجاز: مصنع كربونات الكالسيوم بقسنطينة يبدأ الإنتاج بعد أسابيع    توقيف لص والقبض على عصابة اعتداء: وضع حد لعصابة سرقة المواشي بباتنة    عين عبيد: مطالب بالتهيئة والربط بالشبكات بقرية زهانة    انطلاق فعاليات أسبوع الوقاية: جمع 3790 كيس دم خلال شهر رمضان    وهران.. أكثر من 200 عارض منتظرون في الطبعة 26 للصالون الدولي للصحة    بعثة الجزائر لدى الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد    بعد العروض الإنجليزية..سانت جيلواز يحدد سعر التخلي عن عمورة    الجزائر – روسيا.. احترام وتنسيق سياسي كبير    القيادة الروسية ترغب في تطوير الشراكة الاستراتيجية مع الجزائر    البنك الإفريقي يشيد بإصلاحات الجزائر في عهد الرئيس تبون    إصلاحات عميقة في المدرسة والجامعة.. ورد اعتبار المعلم والأستاذ    تتضمن حوالي ألف كتاب في مختلف مجالات العلم.. المكتبة الشخصية للشيخ عبد الحميد بن باديس ستسلم لجامع الجزائر    معرض التجارة البينية الإفريقية بالجزائر.. تكامل واندماج اقتصادي    باتنة: توقيف شخص لقيامه بسرقة محل تجاري    تحقيقات ميدانية لمراقبة هيكلة أسعار المنتجات المستوردة    امتحان التّربية البدنية للمترشّحين الأحرار من 8 إلى 20 ماي    حجز 29 طنا من الكيف و10 ملايين قرص مهلوس    انطلاق عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان    انطلاق عملية حجز التّذاكر للحجّاج المسافرين    20 مليون يورو لمن يريد عمورة    تراجع مقلق في مستوى بكرار في الدوري الأمريكي    جوان حجام يتحدث عن علاقته مع بيتكوفيتش    عصرنة خدمات "بريد الجزائر" لرفع مستوى الخدمة العمومية    رفع الحصانة عن 7 نواب بالبرلمان    توثيق جريمة جديدة للاحتلال في مجمع "الشفاء" الطبي    انضمام الجزائر لمجلس الأمن قيمة مضافة لإحلال السلم والاستقرار    الصحراويون يعلقون آمالا كبيرة على دفع مسار التسوية الأممية    جهود لإبراز المقومات السياحية لعاصمة الصخرة السوداء    وفاة قرابة 3 آلاف جزائري في سنة واحدة    المستوطنون يصعّدون عربدتهم والفلسطينيون يتصدّون    لا سلام في الشرق الأوسط دون إقامة دولة فلسطين المستقلة    أوامر وتنبيهات إلهية تدلك على النجاة    وهران جاهزة لاحتضان البطولة الإفريقية للأندية الفائزة بالكؤوس    " العميد " يحجز مكانه في نصف النّهائي    ماذا قدم عبدالصمد بوناصر في هذا الموسم ؟ من الرابطة المحترفة الأولى .. موهبة جديدة لترميم دفاعات "محاربي الصحراء"    فرصة للاحتفاء بالموسيقى الكلاسيكية الجزائرية الأندلسية    المعتصم بالله واثق ميدني.. الطفل الذي أزهر عالم الأدب    المهرجان الوطني للمسرح الجامعي.. غدا    قسنطينة تستعيد أمجاد الإنتاج التلفزيوني الوطني    ضبط 17كيسا من الفحم المهرب    إطلاق مسابقة حول التكنولوجيا الخضراء بجامعة قسنطينة(3)    استحضار الذكرى 26 لرحيل العقيد علي منجلي    إبراز المصطلح بين جهود القدماء والمحدثين    روسيا تحدوها إرادة كبيرة في تطوير شراكتها الاستراتيجية مع الجزائر    عشر بشارات لأهل المساجد بعد انتهاء رمضان    تدشين مركز الإذاعة بالمنيعة    البطولة الجهوية لرابطة قسنطينة : صراع «الصعود» بسطيف و«النجاة» في جيجل    ستتم عبر المنصة الرقمية وتشمل 25 ولاية: نحو عرض 400 وعاء عقاري على حاملي المشاريع الاستثمارية    شهداء وجرحى في قصف الإحتلال الصهيوني مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    التوظيف واقتناء الأدوية والعتاد الطبي تحت مجهر الوزارة    تمكين الحجاج من السفر مع بعض في نفس الرحلة    وصايا للاستمرار في الطّاعة والعبادة بعد شهر الصّيام    مع تجسيد ثمرة دروس رمضان في سلوكهم: المسلمون مطالبون بالمحافظة على أخلاقيات الصيام    قوجيل يهنئ الشعب الجزائري بمناسبة عيد الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قاض يحكم على خليفتين ويسجن ابنه
نشر في الشروق اليومي يوم 09 - 05 - 2007


محمد‮ الهادي‮ الحسني
ما أجهل أكثر مسلمي هذا الزمان بدينهم الحنيف وحقائقه الناصعة، وما أجهلهم بتاريخهم المجيد، ووقائعه الرائعة، وما أشقاهم بهذا الجهل، الذي جعلهم يفعلون في أنفسهم ما لم يفعله بهم أعداؤهم.. لقد تألق في أمصار أمتنا الإسلامية وفي مختلف أعصارها عظماء كثير في شتى الميادين عزّ وجود نظراء لهم عند غيرهم..
إن هذه العظمة إن هي إلا ثمرة ذلك الدين القيم، الذي ينشئ أتباعه الحقيقيين على العزة، وينمي فيهم الأنفة، ويغرس في نفوسهم الإباء والكرامة، ومن كان في هذا الكلام يمتري فليرجع إلى قصة ذلك الطفل الذي لم يفر كما فر أنداده عندما رأوا الخليفة عمر بن الخطاب مقبلا نحوهم، فلما سأله الخليفة. لماذا لم تفر كما فعل أترابك؟ قال له: لم آتِ ما أخشاك بسببه، ولم تكن الطريق ضيقة فأفسح لك. يا حسرتاه على أمة كان أكثر أطفالها رجالا، فصار أكثر "رجالها" أطفالا.
من عظماء هذه الأمة الذين يفتخر الزمان بذكرهم، وتَشْرُف الإنسانية بهم، القاضي شُرَيْح بن الحارث بن قيس الكِنْدي، الذي عمّر أكثر من مئة عام. كان شُريح أحد المتبحرين في علوم اللسان العربي بشوارده ونوادره، الراسخين في العلوم الشرعية بأصولها وفروعها، مما جعل العلامة ابن سيرين يعتبره خامس خمسة في الكوفة بسطة في العلم، على ما في الكوفة يومئذ من جهابذة العلماء، وأساطين الفقهاء. ما كان امتياز شُرَيْح بالعلم فقط، بل امتاز أيضا بالحميد من الفعال، والكريم من الخصال، مما حبّب فيه الناس، وأكسبه ثقة ثلاثة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فقد ولاّه الخليفة عمر بن الخطاب قضاء الكوفة، وأقره فيه الخليفتان عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، واستمر في منصبه حتى تولى الحجاج بن يوسف ولاية العراق، فاستَعفَى شُرَيْح من القضاء، بعدما قضى فيه نيفا وسبعين عاما، كان فيها نموذجا مثاليا للقاضي النزيه والحكم الشريف العفيف.
تذكر المصادر أن سبب توليته القضاء هو أن الخليفة عمر بن الخطاب أراد شراء فرس، فلما جربها قبل دفع ثمنها أصابها عطب، فردها إلى صاحبها، فرفض أخذها لما أصابها من عيب، فاقترح عمر وهو خليفة أن يحكتما إلى حكم، فقال صاحب الفرس: "بيني وبينك شُرَيْح العراقي" جاء الخصمان إلى شُرَيْح، وقصا عليه خلافهما، فحكم على الخليفة بدفع ثمن الفرس، أو ردها إلى صاحبها مسلّمة لاشية فيها، فعلّق الخليفة العظيم على حكم هذا الحكم العظيم قائلا: "وهل القضاء إلا هذا؟"، ثم عينه قاضيا على الكوفة، مشترطا عليه كما رُوي عن شُرَيْح نفسه "أن لا أبيع، ولا أبتاع، ولا أقضي وأنا غضبان". وقد رد على من عاب عليه أخذ مبلغ من بيت المال مقابل توليه القضاء قائلا: "أجلس لهم أي للمسلمين وأحبس عليهم نفسي ولا أُرزق".
يعتبر بعض الدارسين المتخصصين في القضاء وتاريخه القاضي شُرَيْحا أحد المجتهدين في القضاء الإسلامي، وضربوا لذلك أمثلة منها أنه استَحلَف مدّعيا بعد إتيانه بالبيّنة، والمعلوم هو أن اليمين على من أنكر الدعوى لا على من رفعها. فقيل لشُرَيْح: "ما هذا الذي أحدثت في القضاء؟". فأجاب: "رأيت الناس أحدَثوا فأحدثت". وقد كان شُرَيْح يتحرى ويدقق في أخلاق الشهود، ويشترط في الشاهد أن يكون "ممن يجلس مجالس قومه، ويشهد معهم الصلوات، ولا يطعن عليه في بطن ولا فرج". ولو كان شُرَيْح في زماننا هذا لرد شهادة تسع وتسعين في المائة من الشهود بسبب بطونهم وما تحتها.
كما كان يرفض أن يتفوّه الشاهد بأي كلام تُشتَم منه رائحة التأثير على حكمه، فكان يطلب من الشاهد أن يدلي بشهادته من دون أن يصف المتهم بأية صفة. وقد شهد شخص أمامه، فأشار في شهادته إلى المتهم وقال: "أشهد أنه ظالم"، فأمر شُرَيْح بإخراج الشاهد من مجلس القضاء، قائلا له: "قم، فلا شهادة لك، ومن أدراك أنه ظالم" وبالرغم مما عرف عن شُرَيْح من رقة المشاعر، ولطيف الأحاسيس، فقد كان لا يتردد في إيقاع الأحكام الشرعية الرادعة على كل من ثبتت عليه التهمة، بعد أن يمكّنه من الدفاع عن نفسه، وكان شعاره "إنما القضاء جَمْرٌ"، ولذلك لم تأخذه رأفة بابنه، ولم يتردد في إدخاله إلى السجن.
لقد كان شُرَيْح عظيما، إذ لم يكن يجد في نفسه حرجا من أين يصرح على رؤوس الإشهاد أنه بشر قد يخطئ في أحكامه، وكان شجاعا فيطلب تنبيهه إلى ما يمكن أن يقع فيه من خطأ، وقد قال لشخص لامه على حكم أصدره: "لئن رأيت أني لا أخطئ، لبئس ما رأيت" وما قال شُرَيْح هذا القول تصنّعا ورياء كما يفعل بعض الناس، الذين يُظهرون التواضع المزيف، ويضمرون الاستعلاء الفارغ، وإذا قالوا أو فعلوا ظنوا أنفسهم أنهم لا يقولون إلا حكما من الأقوال، ولا يأتون إلا سليما من الأفعال، فإن نُبّهوا إلى سوء تصرف استشهدوا الأنذال. وأما الموقف الذي نتيه به على العالم، فهو حكم القاضي شُرَيْح على الخليفة علي بن أبي طالب ­ كرم الله وجهه­ لصالح يهودي، وخلاصة القضية أن الخليفة علي بن أبي طالب أضاع درعه، ثم رآها عند يهودي، فطلب منه إعادة الدرع، فأنكر اليهودي، ورفض إعادة الدرع لصاحبها، فرفع الخليفة الأمر إلى القاضي شُرَيْح، الذي لم يشك مثقال ذرة في صدق الخليفة، ولكن اليهودي أصر على الإنكار، فاستشهد القاضي شُرَيْح عليا، فأشهد ابنه وخادمه. رفض القاضي شُرَيْح شهادة من شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة، لما بين الشاهد والمشهود له من علاقة بنوة وأبوّة، وذلك لكي لا يفسح المجال للخراصين وماضغي الأقوال، وحكم باحتفاظ اليهودي بالدرع، فبهت هذا اليهودي، لأنه لم يتخيّل أن يحكم القاضي لصالحه بالرغم من تيّقنه من بهتانه، فلم يستنكف أن يؤوب إلى الحق، ولم يصر على البهتان، فقال: "أشهد أن الدرع لك مخاطبا عليا وإن دينكم هو الحق، قاضي المسلمين يحكم على أمير المؤمنين، ويرضى، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله".
رحم الله القاضي شُرَيْحا، ورضي عمن ولاّه القضاء، وخضع لأحكامه وإن لم تكن في صالحه كعمر وعلي، وإن المسلمين لم يتردوا هذا التردي الشنيع، ولم يسفلوا هذا التسفل الفظيع إلا لأنهم أعرضوا عن أحكام الإسلام وحكمه ولو زعموا أنهم من أتباعه، وادعوا أنهم من علمائه ودعاته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.