رئيس الجمهورية يبرز أهم مكاسب الاقتصاد الوطني ويجدد تمسكه بالطابع الاجتماعي للدولة    تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية, وصول أطفال فلسطينيين جرحى إلى الجزائر    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال الصهيوني استهدف منزلا برفح    موريتانيا: افتتاح الطبعة السادسة لمعرض المنتجات الجزائرية بنواكشوط    مطار بوفاريك: إجلاء أطفال فلسطينيين جرحى من القاهرة    تيارت..هلاك ثلاثة أشخاص وإصابة ثلاثة آخرين في حادث مرور    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    أكثر من مليون ونصف مترشح لامتحاني شهادة البكالوريا وشهادة التعليم المتوسط دورة يونيو 2024    لعقاب يدعو إلى تعزيز الإعلام الثقافي ويكشف: نحو تنظيم دورات تكوينية لصحفيي الأقسام الثقافية    "تحيا فلسطينا": كتاب جديد للتضامن مع الشعب الفلسطيني    سليمان حاشي : ابراز الجهود المبذولة لتسجيل عناصر ثقافية في قائمة الموروث الثقافي غير المادي باليونسكو    هجرة غير نظامية: مراد يشارك بروما في اجتماع رفيع المستوى يضم الجزائر، إيطاليا، تونس وليبيا    لعقاب : الانتهاء من إعداد النصوص التطبيقية المنظمة لقطاع الاتصال    الجزائر تؤكد من نيويورك أن الوقت قد حان لرفع الظلم التاريخي المسلط على الشعب الفلسطيني    مجمع الحليب "جيبلي": توقيع اتفاقية اطار مع وكالة "عدل"    اجتماع الحكومة: الاستماع الى عرض حول إعادة تثمين معاشات ومنح التقاعد    دراجات/الجائزة الكبرى لمدينة وهران 2024: الدراج أيوب صحيري يفوز بالمرحلة الأولى    الفنانة حسنة البشارية أيقونة موسيقى الديوان    قسنطينة..صالون دولي للسيارات والابتكار من 23 إلى 26 مايو    وفاة 8 أشخاص تسمما بغاز أحادي أكسيد الكربون خلال شهر أبريل الماضي    وزير الصحة يشرف على افتتاح يوم علمي حول "تاريخ الطب الشرعي الجزائري"    التوقيع على برنامج عمل مشترك لسنة 2024-2025 بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة يوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    السيد عطاف يجري بكوبنهاغن لقاءات ثنائية مع عدد من نظرائه    اليوم العالمي لحرية الصحافة: المشهد الإعلامي الوطني يواكب مسار بناء الجزائر الجديدة    حوادث المرور: وفاة 62 شخصا وإصابة 251 آخرين خلال أسبوع    معرض الجزائر الدولي ال55: نحو 300 مؤسسة سجلت عبر المنصة الرقمية الى غاية اليوم    رالي اكتشاف الجزائر- 2024 : مشاركة 35 سائقا اجنبيا وعدد معتبر من الجزائريين    منظمة العمل العربية: العدوان الصهيوني دمر ما بناه عمال غزة على مر السنين    في انتظار التألق مع سيدات الخضر في الكان: بوساحة أفضل لاعبة بالدوري السعودي الممتاز    تدعيم الولايات الجديدة بكل الإمكانيات    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    بخصوص شكوى الفاف    رئيس الجمهورية يحظى بلقب "النقابي الأول"    بداية موفّقة للعناصر الوطنية    اجتياح رفح سيكون مأساة تفوق الوصف    العلاقات بين البلدين جيدة ونأمل في تطوير السياحة الدينية مع الجزائر    انبهار بجمال قسنطينة ورغبة في تطوير المبادلات    إطلاق أول عملية لاستزراع السمك هذا الأسبوع    الجزائر في القلب ومشاركتنا لإبراز الموروث الثقافي الفلسطيني    روما يخطط لبيع عوار للإفلات من عقوبات "اليويفا"    البطولة الإفريقية موعد لقطع تأشيرات جديدة لأولمبياد باريس    بولبينة يثني على السعي لاسترجاع تراثنا المادي المنهوب    دعم الإبداع السينمائي والتحفيز على التكوين    تتويج إسباني فلسطيني وإيطالي في الدورة الرابعة    دعوة للتبرع بملابس سليمة وصالحة للاستعمال    263 مليون دينار لدعم القطاع بالولاية    تكوين 500 حامل مشروع بيئي في 2024    حملة وطنية للوقاية من أخطار موسم الاصطياف    الجزائريون يواصلون مقاطعة المنتجات الممولة للكيان الصهيوني    أوغندا تُجري تجارب على ملعبها قبل استضافة "الخضر"    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة اليوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    خنشلة: الوالي محيوت يشرف على إحياء اليوم العالمي للشغل    سايحي يكشف عن بلوغ مجال رقمنة القطاع الصحي نسبة 90 بالمائة    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السجن المدني.. تراجيديا معتقلان جزائريان بنواقشط
نشر في الشروق اليومي يوم 11 - 07 - 2006

بعيدا هناك في الصحراء على بعد آلاف الكيلومترات يقبع الجزائريان إسماعيل موسى وعبد المجيد سيدي موسى في السجن المدني بنواقشوط، بتهم لم تثبت إلى الآن بالأدلة القاطعة، دون أن يثير ذلك حفيظة المسؤولين الجزائريين الذين قبلوا المهانة لمواطنيهم ولم يحرك أحد ساكنا إذا‮ استثنينا‮ المقالات‮ التي‮ نشرتها‮ "‬الشروق" حول‮ مأساتهم‮. "الشروق اليومي" وحرصا منها على سلامة وأمن وكرامة الجزائريين إنتقلت إلى نواقشط واتصلت مع كل الأطراف التي لها علاقة بقضية الجزائريين المسجونين في السجن المدني بتهمة الانتماء إلى تنظيم القاعدة، وبطريقة ما تمكنت "الشروق" من تأمين مكالمة هاتفية مع المسجونين وتحدثت‮ إليهم‮ لساعات،‮ وكم‮ كان‮ تأثرهم‮ كبيرا‮ عندما‮ علموا‮ أن‮ صحيفة‮ جزائرية‮ أوفدت‮ مبعوثا‮ لها‮ إلى‮ نواقشط‮ من‮ أجل‮ التحقيق‮ في‮ قضيتهم‮.‬
تحقيق: رشيد‮ ولد‮ بوسيافة‮
‬ مبعوث‮ الشروق‮ اليومي‮ إلى‮ نواقشط‮
"إننا جزء من الجزائر، ونحن من أبنائها البررة، فلماذا تتخلى عنا في محنتنا".. بهذه الكلمات المؤثرة بدأ إسماعيل موسى حديثه المطول معي وهو الذي كان يعتقد أن الجزائري كرامته محفوظة أينما حل، خاصة في البلدان العربية الشقيقة مثل موريتانيا.. إسماعيل موسى شاب من منطقة الأربعاء بالبليدة، وهي منطقة عرفت بالتوتر الأمني بداية التسعينيات وكانت من المناطق التي عرفت سيطرة شبه كلية للجماعات المسلحة، ولأن الأمر يتعلق باقتتال بين الجزائريين، فضل إسماعيل أن يغادر أرض الوطن، وأن لا يكون طرفا في الفتنة المتفجرة.. غادر إسماعيل الجزائر هروبا من الفتنة وتوجه إلى السعودية طالبا للعلم فنهل منه الكثير، حيث التحق بجامعة الإمام محمد بن سعود عن طريق رابطة العالم الإسلامي، وقد أرسلته الجامعة إلى فرع لها بموريتانيا بمنحة من جامعة الرياض، وواصل دراسته بنواقشوط إلى أن حصل على الليسانس في الشريعة الإسلامية، بعدها قدم ملفا إلى جامعة لبنانية وهي جامعة الجنان بطرابلس، وقبل في السنة الأولى من كلية الحقوق، غير أنه لم يلتحق بلبنان كليا، بل كان يذهب إلى هناك بشكل متقطع في فترات الامتحانات.
إستقر إسماعيل نهائيا في نواقشوط وتزوج من موريتانية وأنجب منها ولدا، غير أن هذا الزواج لم يكتب له الاستمرار وحدث الطلاق، وبعدها أعاد الزواج من الجزائرية حسنية تلامي ريحان وهي من مدينة براقي بالعاصمة، هذه الأخيرة لا زالت تكابد معه عناء المحنة وشغف الغربة، وقد‮ أنجب‮ منها‮ بنتا‮ اسمها‮ حورية‮ عمرها‮ الآن‮ ثلاث‮ سنوات‮ ونصف،‮ ولا‮ زالت‮ الزوجة‮ الجزائرية‮ تحتفظ‮ بولده‮ الأول‮ من‮ مطلقته‮ الموريتانية‮ وتعامله‮ كابنها‮.‬
بداية‮ المأساة‮..
إشتغل إسماعيل مدرسا في الثانوية، وكان يمارس الرقية الشرعية بالموازاة مع عمله، ونظرا لكثرة الارتباطات والمواعيد مع المرضى لم تكن له اهتمامات أخرى خارج ثنائية التدريس والرقية، اللهم إلا الاستزادة من طلب العلم، لكن إسماعيل لم ينجُ بحياديته ووجد نفسه دون أن يريد‮ أحد‮ الأبطال‮ الرئيسيين‮ في‮ عدو‮ وهمي‮ اسمه‮ "‬تنظيم‮ القاعدة‮" في‮ موريتانيا‮.‬
وكانت بداية المأساة عندما حدد إسماعيل موعدا مع إطار جزائري يشتغل مديرا لشركة غاز من أجل الرقية لزوجته، وكان ذلك يوم 29 ماي 2005.. ركب إسماعيل في سيارة الإطار الجزائري متوجها إلى بيته، وفي الطريق التقوا صدفة مع مدير الأمن الجهوي لنواقشوط واسمه محمد إبراهيم ولد السيد، هذا الأخير أوقفهما وطلب منهما مرافقته إلى مفوضية الشرطة، وهناك تم التحقيق مع الإطار الجزائري الذي أطلق سراحه بعد عشر دقائق، ولسوء الحظ يقول إسماعيل إنه لم ينتظرني ولم يحاول مساعدتي مع أني تواعدت معه قبل أسبوع من الحادثة.
يقول إسماعيل لقد أعطيت المحققين كل الأوراق التي تثبت إقامتي القانونية في موريتانيا وذكرتهم بمكانتي في المجتمع وبعلاقاتي الطيبة جدا مع الجهات الرسمية الجزائرية وعلى رأسها السفارة الجزائرية في نواقشوط، وكل ذلك لم يجد نفعا، بعدها تحول التحقيق إلى مستوى آخر حين اقتاد مجموعة من أفراد الشرطة إسماعيل إلى بيته وقاموا بتفتيش بيته بدقة ولم يجدوا شيئا يثبت إدانته، فكل ما كان في البيت كتب وأشرطة دينية يحتاجها أي مسلم، وكان إسماعيل يحتفظ بعلم جزائري يقول إنه بحجم العلم الذي يرفرف على مبنى السفارة الجزائرية، وقد طرحوه أرضا‮ ولم‮ يعاملوه‮ باحترام‮.‬
دامس‮ وما‮ أدراك‮ ما‮ دامس‮!!
لقد اعتقد إسماعيل أن ما حدث له ذلك اليوم مجرد إجراءات احترازية وسرعان ما يتم إطلاق سراحه بعد التأكد من هويته وعلاقاته الطيبة مع الناس، لكن الذي لم يكن إسماعيل يعلمه أن القادم أدهى وأمر، وأنه على موعد مع دخول التاريخ، بل إنه قد يتحول إلى بطل تفوق شهرته شهرة دونكيشوت ديلامانشا، كيف لا وقد قيل في الصحافة الفرنكفونية الموريتانية الكثير عن غزواته تحت لواء القاعدة، وأنه الوسيط الأساسي بين الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر والجماعات الموريتانية، وأنه كان وراء عملية المغيطي التي يشكك الموريتانيون أنفسهم في حدوثها، وأنه نفذ عمليات أخرى كثيرة ذهب ضحيتها موريتانيون، غير أنهم نسوا القول بأنه هو الذي تسبب في نفوق الدلافين على شواطئ المحيط!!.. لقد كذبوا حتى في طريقة اعتقاله فقالوا إن القبض عليه كان في الحدود مع مالي وكانت برفقته زوجة من الزنوج وأسلحة كثيرة، وهي معلومات‮ كذبتها‮ السفارة‮ الجزائرية‮ في‮ حينها‮ حيث‮ اتصلت‮ بالجريدة‮ التي‮ نشرت‮ الموضوع‮ وفندته‮ بصفة‮ رسمية‮.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الجهود المحمودة التي بذلتها السفارة الجزائرية في قضية إسماعيل، وكانت خير رفيق للزوجة في محنتها لدرجة أن القنصل الجزائري كان غالبا ما يرافقها إلى السجن لزيارة زوجها كما أن السفارة سلمت مبلغا ماليا للزوجة لتسديد إيجار البيت.
إنتهت الإجراءات الأولية، لكن قصة إسماعيل لم تنته، بل تم تحويله إلى مفوضية الشرطة الواقعة في المقاطعة السادسة التي يسكن بها، وهناك كان المكلف باستنطاقه جلاد اسمه دامس.. وما أدراك ما دامس.. قالها إسماعيل مع تنهيدة طويلة اختصرت كل الجحيم الذي عاشه بين يدي دامس‮.‬
بدأ المفوض دامس التحقيق مع إسماعيل وأول ما طلبه قصة دخوله إلى موريتانيا، كما سأله عن كل شيئ، عن عمله وعلاقاته، وكانت كل إجابات إسماعيل واضحة وصريحة وغير مترددة. وفي اليوم الثاني جاء دامس بورقة مكتوب عليها أسئلة تتعلق بأشخاص وسأله إن كانت له علاقة بهؤلاء، وبعد‮ نفي‮ إسماعيل‮ تحول‮ دامس‮ إلى‮ الاتهامات‮ وقال‮ له‮ إنك‮ عضو‮ في‮ تنظيم‮ القاعدة‮ وأنت‮ الوسيط‮ بين‮ الجماعة‮ السلفية‮ للدعوة‮ والقتال‮ والجماعات‮ الموريتانية‮.‬
هول‮ المأساة‮ يؤدي‮ بالزوجة‮ إلى‮ الإجهاض‮
وفيما كان إسماعيل يعايش فصول محنته مع دامس والجلادين الآخرين، نزل خبر اعتقاله كالصاعقة على معارفه من الجالية الجزائرية ومن الموريتانيين، وقد هرع عدد كبير من أفراد الجالية إلى مبنى السفارة للاطمئنان على سلامته.
ولأن زوجته كانت حاملا في الأسابيع الأولى ونظرا لهول ما رأته أدى بها ذلك إلى مضاعفات صحية انتهت بإجراء عملية إجهاض، وبطرق معقدة تمكنت "الشروق اليومي" من الوصول إلى بيت إسماعيل وقابلت زوجته وأبناءه وتحدثت إليهم مطولا، وسنعود إلى تفاصيل ذلك بعد سرد ما حدث مع إسماعيل‮ من‮ فصول‮ مروعة‮ من‮ التعذيب‮ والاستنطاق،‮ وقبل‮ ذلك‮ لا‮ بد‮ من‮ الإشارة‮ إلى‮ أن‮ الأخبار‮ التي‮ وردت‮ لإسماعيل‮ حول‮ صحة‮ الزوجة‮ والأبناء‮ زادت‮ في‮ عذابه‮ وضاعفت‮ معاناته‮.‬
لقد ألزم الجلاد دامس إسماعيل بالاعتراف بأنه على علاقة بالجماعات الموريتانية وأنه يزودهم بالمنشورات التحريضية التي يأتي بها من الجزائر، وعندما رفض إسماعيل الاعتراف بهذه الأكاذيب، تحول التحقيق إلى مرحلة أهم وأخطر.. يقول إسماعيل "جاءني أربعة من المختصين في التعذيب وقالوا والله لتقرن بهذا، وعندما رفضت ربطوا يدي إلى الخلف وأغمضوا عيناي وذهبوا بي إلى مكان بعيد مسيرة 20 دقيقة بالسيارة، وكان ذلك ليلا، وأدخلوني إلى مكان لا أعرفه أبدا، وقال لي كبيرهم وكان اسمه ديدي: لا نريد أن نعذبك أنت شخص محترم وكل الناس يحترمونك وما عليك إلا الاعتراف وينتهي كل شيئ، فرددت عليه يضيف إسماعيل ليس لدي أي شيئ أعترف به، عندها أخذوني إلى أشخاص آخرين يعذبون من أجل إخافتي ودفعي إلى الاعتراف، ولما رفضت بدأوا في تعذيبي".
سادية‮.. ما‮ كنا‮ نعتقد‮ وجودها‮ في‮ موريتانيا
سمعت عن السادية وعن نوع من البشر يتلذذ بأذية الناس وتعذيبهم، ولكن ما كنت أعتقد أن هذا النوع موجود في موريتانيا البلد الشقيق الذي يربطه كل شيئ جميل بالجزائر، هذا حدث مع إسماعيل الجزائري الذي كان يدرس أبناء الموريتانيين ويداوي مرضاهم.
لقد تعاون الجلادون الأربعة على تعذيب إسماعيل وتناوبوا على تقطيع لحم فخذيه وساقيه وعلى مستوى الصدر، ثم إطفاء سجائرهم في تلك الجراح، واستمر الحال هكذا يوما بعد آخر ولا زالت آثار التعذيب إلى الآن، وقد أقسم إسماعيل ل "لشروق" على ذلك وهو في زنزانته.. إستمر التعذيب‮ على‮ فترات‮ متقطعة‮ لمدة‮ خمسة‮ وأربعين‮ يوما‮ وكانت‮ "الحصة‮ التعذيبية‮" تبدأ‮ من‮ العاشرة‮ ليلا‮ إلى‮ غاية‮ الواحدة‮ بعد‮ منتصف‮ الليل،‮ وقد‮ بلغ‮ عدد‮ الأيام‮ التي‮ عذب‮ فيها‮ 12‮ يوما‮...‬
كان الهدف من كل هذا التعذيب إعتراف إسماعيل بأنه الوسيط بين الجماعة السلفية للدعوة والقتال والجماعات الموريتانية، ومع صلابة إسماعيل الذي رفض الاعتراف بأشياء لم يفعلها تم تحويله إلى قاضي التحقيق، ولأن المحامي الذي وكل لإسماعيل إستمات في الدفاع عنه مع قاضي التحقيق‮ مؤكدا‮ أن‮ موكله‮ بريئ‮ من‮ التهم‮ منح‮ قاضي‮ التحقيق‮ الحرية‮ المؤقتة‮ لإسماعيل،‮ وقد‮ أكدت‮ محكمة‮ الاستئناف‮ هذه‮ الحرية،‮ لكنها‮ قرارات‮ على‮ ورق‮ ولا‮ مجال‮ للتطبيق‮.‬
فلقد سحبت النيابة العامة كل ملف الإسلاميين الموقوفين ولم يعد لدى قاضي التحقيق أية وثيقة لديه ليتحرك بها، ولا زال إلى الآن إسماعيل وعبد الرزاق وعدد آخر من الإسلاميين الموريتانيين في السجن رغم حصولهم على قرار الحرية المؤقتة.
عندما‮ يتحول‮ الشاهد‮ إلى‮ مذنب‮!‬
المتعارف عليه في القوانين أن المذنب قد يتحول إلى شاهد إذا قدم معلومات مفيدة للعدالة، لكن الذي حدث مع الجزائري الآخر المحبوس في السجن المدني بنواقشوط واسمه عبد المجيد سيدي موسى عكس ذلك تماما، فقصة عبد المجيد محيرة ومؤثرة، وبدأت عندما وجدت زوجة إسماعيل نفسها في مواجهة كل شيئ بعد اعتقال زوجها وهي التي كانت في بيتها بعيدة كل البعد عن الحياة العامة، لا علاقات، لا زيارات، لا معارف غير معارف زوجها، ومع ذلك فكرت في طريقة لمساعدة زوجها في محنته فاهتدت إلى طريقة قد تأتي بنتيجة، بحثت في مفكرة زوجها فوجدت رقم هاتف عبد المجيد، إتصلت به وأبلغته أن إسماعيل تم اعتقاله وطلبت منه المساعدة، ولأن البريئ يتصرف على سجيته قام عبد المجيد بالاتصال هاتفيا بإسماعيل، فردت عليه الشرطة لأن الهاتف كان بحوزتها، وسألوه عن المكان الذي يتصل منه فقال لهم إني في المدرسة القرآنية، وقد اتصلت لأطمئن على صديقي إسماعيل، غير أن عبد المجيد المسكين لم يكن يعلم أنه ورط نفسه بهذه المكالمة، إذ سرعان ما تنقل عدد من أفراد الشرطة إلى المدرسة القرآنية واقتادوه رفقة عالم موريتاني يدرس بنفس المدرسة القرآنية من أجل الشهادة، لكنهما تحولا إلى مذنبين ولا زال عبد المجيد‮ إلى‮ اليوم‮ يعاني‮ ويلات‮ السجن،‮ أما‮ العالم‮ الموريتاني‮ فقد‮ أطلق‮ سراحه‮ بعد‮ انقلاب‮ 3‮ أوت‮ الماضي‮.‬
وقد تحدثت "الشروق اليومي" مطولا إلى عبد المجيد عبر الهاتف، وكان في حالة نفسية خطيرة، لدرجة أن الكلمات خانته للتعبير عن ما يشعر به عكس إسماعيل الذي كان أكثر تماسكا وثباتا... حيث قال "إن ما يحدث هو تجارة بأرواح الجزائريين، لقد مارسوا علي أنواعا كثيرة من التعذيب، تركوني في زنزانة لمدة 15 يوما مع سجين كاميروني حتى أصبحت لا أفرق بين الليل والنهار، وكنت مصابا بحمى الملاريا ومع ذلك لم يرحموني ومنعوني من النوم أربعين ليلة، لقد مرت علينا أيام قاسية جدا" أما إسماعيل فيلخص المعاناة كلها بأنه وزميله مسجونان في غوانتانامو‮ ثانية،‮ وربما‮ أشد‮ لأن‮ المناخ‮ أقسى‮ والإمكانيات‮ أقل،‮ والاهتمام‮ الإعلامي‮ أضعف‮.‬
رحلة‮ البحث‮ عن‮ زوجة‮ إسماعيل‮..‬
لم تكن الصورة لتكتمل بهذا القدر، فقررت "الشروق" البحث عن زوجة إسماعيل، وبمساعدة أشخاص لن نذكر أسماءهم حرصا على سلامتهم، تمكنت من الوصول إلى محامي إسماعيل وهو الذي كان الدليل في الوصول إلى الزوجة... ركبت معه في سيارة فورد متهالكة وهو حال كل الإطارات في موريتانيا إذا استثنينا الطبقة الثرية جدا، وفي الطريق سألته عن موكله، فكان واثقا من نفسه عندما قال لي إنه مظلوم وسمعته طيبة في نواقشوط ويعرفه الجميع، وعبر لي عن امتعاضه من الطريقة التي عومل بها والسابقة القانونية الخطيرة التي حدثت، حين سحب النائب العام الملف من‮ قاضي‮ التحقيق‮ دون‮ أن‮ يترك‮ نسخة‮ منه‮.‬
كان انطلاقنا من إقامة الزهراء التي كنت أقيم بها، وهي واقعة في أرقى حي بنواقشط تقابلها مباشرة السفارة الجزائرية وسفارات أخرى، وتوجهنا إلى المنطقة السادسة أين يسكن إسماعيل، ونظرا لكثرة الأزقة وتشابهها وتداخلها لم أكن أعرف الجهة التي أقصدها هل هي شمالا أم جنوبا، وكلما اقتربنا كانت الأوضاع تسوء، شوارع قديمة وغير نظيفة ويبدو أن عربات النظافة لا تمر عليها إطلاقا، محلات بحجم طاولات"الكاوكاو"، وملامح البؤس يمكنك أن تقرأها على ملامح الجميع، وصلنا إلى بيت إسماعيل وقد فاجأني بناؤه العصري وتوقعت أن إسماعيل قد يكون ثريا، لكن بعد دخولي تغيرت الصورة فقد كان البيت مؤجرا لأكثر من عائلة، مع أنه غير مصمم لذلك، حيث تطلب دخولي إلى الغرف التي يحتلها إسماعيل المرور عبر شقة أخرى، وتصوروا الحرج الذي شعرت به وأنا أمر أمام مطبخ وغرفة نوم أشخاص لا أعرفهم ولا أقصدهم.. استقبلتني السيدة حسنية تلامي ريحان زوجة إسماعيل وهي شابة مثقفة ومتدينة وترتدي الجلباب، إرتاحت كثيرا لما عرفت أنني أسكن بالقرب من بيت أهلها في براقي، سألتني عن الجزائر وعن براقي وعن الأحوال هناك، وغلبتها العبارات وهي التي رفضت مغادرة موريتانيا قبل تخليص زوجها من أسره.
أما أنا فكنت في موقف صعب للغاية، سردت لي حسنية ما حدث لها بتفصيل غير ممل، وكانت تسارع للإجابة عن الأسئلة التي لم أطرحها بعد، حدثتني عن الجالية الجزائرية وكيف وقفت معها في محنتها، وأشادت كثيرا بالدور الذي قامت به السفارة الجزائرية، فقد كانت على اتصال دائم بالسلطات الموريتانية من أجل إطلاق سراح إسماعيل، والقنصل كان غالبا ما يرافقها، كما أن السفارة ساهمت في تسديد إيجار البيت، بعد أن توقف ذلك منذ اعتقال إسماعيل، ويبلغ إيجار البيت 35000 أوقية موريتانية، أي ما يعادل قرابة 12000 دينار جزائري، وقالت حسنية إن موظفا بالسفارة ينتسب لجهة أمنية جزائرية قد يكون الملحق العسكري قال للمسؤولين الموريتانيين: إننا في الجزائر حاربنا الإرهاب طويلا وقد اكتسبنا خبرة ونستطيع التفريق بين الإرهابي وغيره، ونحن نؤكد لكم أن إسماعيل لا يمكن أن يكون إرهابيا.
لقد اقترحت السفارة الجزائرية على زوجة إسماعيل العودة إلى الجزائر فرفضت وفضلت البقاء في نواقشوط، بل إن الطفلة حورية ذات الثلاث سنوات هي التي رفضت الذهاب إلى الجزائر دون رفقة أبيها، وغالبا ما تسأل أمها فتقول متى يخرج أبي من السجن.. ثم تجيب على نفسها بنفسها "كي‮ يكتب‮ ربي".‬
إن المساعدات التي قدمتها السفارة ويقدمها عدد من أفراد الجالية لا تكفي متطلبات المعيشة في نواقشوط، وقد قال لي المحامي بأن مصروف العائلة العادية في الشهر يتجاوز 90 ألف أوقية أو ما يعادل 3 مليون سنتيم، هو نداء موجه للجزائريين مسؤولين ومواطنين من أجل مساعدة هذه‮ السيدة‮ التي‮ تضحي‮ لمساعدة‮ زوجها‮.‬
زوجي‮ متدين‮ وليس‮ إرهابيا‮..
ما أحز في نفس زوجة إسماعيل هو التصريح المثير الذي خرج به رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية والذي أكد فيه أن الإسلاميين المعتقلين هم من تنظيم القاعدة، وقالت "إن زوجي متدين فعلا، لكنه كان يقسم وقته بين التدريس والرقية الشرعية ولم تكن لديه اهتمامات أخرى، لقد فوجئت باتهام الشرطة له تقول حسنية وفوجئت بكلام الرئيس، لقد سئل زوجي عن انتمائه فقال إني سني ومن حقه ذلك، إن زوجي وأنا أقسم بالله على ذلك بريء من التهم المنسوبة إليه براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام«.
وقصت علينا معاناتها مع الطفلين الذين اشتاقا لرؤية أبيهما، وقالت إن حورية أصبحت لا تنام ليلا ولا تأكل، أما الطفل إسحاق الذي يبلغ من العمر ثمان سنوات فلا زال لم يدخل المدرسة بسبب الظروف لكنها عوضت ذلك بتدريسه في البيت.
لقد أطلقت السلطات الموريتانية بعد الانقلاب الأخير عددا كبيرا من الإسلاميين المعتقلين، ولا زال 18 منهم في السجن من بينهم الجزائريان، ومن الواضح أن إبقاءهم في السجن يعد تجاوزا لأن الإسلاميين كان لهم ملف واحد وتهم متشابهة، فعملية الإفراج كانت اعتباطية وبالتالي‮ الاستمرار‮ في‮ الاعتقال‮ هو‮ الآخر‮ اعتباطي‮.‬
لقد شكك العديد من السياسيين في موريتانيا والقانونيين والصحفيين الذين تحدثنا إليهم في وجود تنظيم القاعدة في موريتانيا، والكثير منهم قال إن عملية المغيطي التي قيل إن الجماعة السلفية للدعوة والقتال نفذتها لا أساس لها من الصحة، وإنما هي محاولة من النظام السابق لاستعطاف الغرب وأمريكا بالتحديد، كما أن التردد في إطلاق سراح المعتقلين يعود الى الضغوط الخارجية أو حتى لا يقال إن موريتانيا تتساهل مع الإرهابيين، وفي المحصلة يدفع الجزائريان إسماعيل وعبد المجيد ثمنا للعبة دولية دخلتها موريتانيا لإثبات أنها في خندق واحد مع‮ الولايات‮ المتحدة‮ الأمريكية‮ في‮ مكافحة‮ الإرهاب‮.‬
إن الكثير من أعضاء الجالية الجزائرية الموجودة في نواقشط أصبحوا يتجنبون الاتصال علنيا بزوجة إسماعيل ومنهم من يقدم المعونات المالية لها بشكل سري حتى لا يكون تحت طائلة مع السلطات الموريتانية، وخلال تواجد "الشروق" في بيت إسماعيل جاء جزائري وسلم مبلغا من المال للزوجة وهي بدورها سلمته للمحامي من أجل اقتناء مروحية هواء، وإيصالها إلى إسماعيل من أجل أن تخفف عنه قساوة السجن، وقد تحدثت "الشروق اليومي" إلى المحسن الجزائري ولاحظت علامات الوجل والخوف عليه وطلب منا عدم ذكر اسمه، بل أن زوجة إسماعيل طلبت منا عدم الحديث إلى الجزائريين‮ وعدم‮ توريطهم‮ مع‮ السلطات‮ الموريتانية‮ فيكفي‮ ما‮ حدث‮ مع‮ عبد‮ الرزاق‮.‬
‮.. وشهد‮ شاهد‮ من‮ أهلها‮!‬
إن العدو الوهمي الذي يتحدثون عنه في موريتانيا، لا يقر بوجوده حتى أقارب الرئيس المخلوع معاوية ولد سيد أحمد الطايع، وقد أكد ذلك أحد أشد المدافعين عن ولد الطايع ل "الشروق اليومي" الذي زارته بمقر الجريدة التي يصدرها، حيث قال عبد الفتاح ولد عبيدن وهو من أقارب ولد الطايع إنه لا يؤمن بوجود تنظيم القاعدة في موريتانيا، وأن الأمر مجرد أوهام، وقد شكك عدد من القانونيين في حدوث هجوم المغيطي حقيقة وقالوا إن الأمر يتعلق بسيناريو مفبرك من أجل أهداف مختلفة على رأسها إقناع الغرب بأن موريتانيا في خندق واحد معه في مكافحة الإرهاب، ويرى النائب السابق في البرلمان المنحل أحمد يحيى بن لبان "أن حادثة المغيطي كان الهدف منها إخراج الجيش الموريتاني من نواقشط لكي يسهل الإنقلاب على ولد الطايع من طرف أقرب مقربيه".. حسابات سياسية وأغراض متداخلة، أما الثمن فيدفعه الجزائريان إسماعيل وعبد المجيد‮.
‬ المثير في قضية إسماعيل وعبد المجيد أن السلطات الموريتانية نفسها مقتنعة ببراءتهما ومع ذلك تصر على الاستمرار في اعتقالهما، بل إن وزير العدل الحالي نفسه كان محاميا للمعتقلين قبل الانقلاب الذي أطاح بمعاوية ولد سيد أحمد الطايع، وحسب إسماعيل فإن وزير العدل سبق أن قام بزيارة إلى المعتقلين لما كان محاميا واطلع على آثار التعذيب التي تعرض لها إسماعيل وكان تأثره شديدا، ووعد بالعمل على معاقبة المتورطين فيه، غير أن كل ذلك انتهى مع الانقلاب، فلا المعتقلين الجزائريين غادروا السجن ولا المتورطين في التعذيب نالوا عقابهم.
لقد حاولت "الشروق اليومي" طيلة تواجدها في نواقشط الوصول إلى أحد المسؤولين الكبار في موريتانيا لاستيضاح الأمر، وعلى رأسهم رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية، أو وزير العدل، لكن الآلة البيروقراطية البطيئة جدا أفشلت كل تلك الجهود، وكان الجواب الذي اشترك‮ فيه‮ كل‮ من‮ اتصلنا‮ بهم‮ سواء‮ في‮ وزارة‮ الشؤون‮ الخارجية‮ أو‮ وزارة‮ الاتصال‮ أو‮ ديوان‮ المجلس‮ العسكري‮ للعدالة‮ والديمقراطية‮ هو‮ "‬اترك‮ رقمك‮ وسنتصل‮ بك‮"!.‬
إن المثير في قضية إسماعيل وزميله هو التعاطف المطلق معهما من طرف كل الفعاليات الموريتانية، الأحزاب، منظمات المجتمع المدني، والصحف الموريتانية، خصوصا المعربة التي كتبت عنهما أكثر ما كتبته الصحافة الجزائرية، وما سألت أحدا من السياسيين في موريتانيا إلا وأكد لي أنه يعرف إسماعيل موسى وهو بريئ من التهمة الموجهة إليه. كانت علاقات إسماعيل موسى واسعة جدا في أوساط المجتمع الموريتاني، وكان على اتصال دائم مع السفارة الجزائرية وهذه الأخيرة أكدت أكثر من مرة براءته، فلماذا الاستمرار في السلوك غير الدبلوماسي من طرف موريتانيا إزاء الجزائر؟.. وهي التي تراهن على علاقات جيدة مع الجزائر، كما أن الجالية الموريتانية في الجزائر تتمتع بمعاملة خاصة، والطلبة الموريتانيون ينتشرون بكثرة في الجامعات الجزائرية، ويستفيدون من نفس الامتيازات التي يستفيد منها الطلبة الجزائريون "مجانية الدراسة ومجانية‮ الإيواء‮ ومجانية‮ الغذاء"‬،‮ فهل‮ يعقل‮ أن‮ يقابل‮ الموريتانيون‮ هذا‮ الإحسان‮ بالإساءة‮ إلى‮ جزء‮ من‮ الجالية‮ الجزائرية‮ هناك؟‮!‬
ثم ألا يفترض أن تتحرك الخارجية الجزائرية بشكل أقوى وتمارس نوعا من الضغط على السلطات الموريتانية لمحاكمة المعتقلين أو إطلاق سراحهم؟ أم أن الكلام الكثير الذي سمعناه عن إعادة الاعتبار للجزائر دوليا مجرد نفخ في الهواء..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.