وسط ترقب الدوري السعودي.. ميلان يضع بن ناصر على لائحة البيع    حنكة دبلوماسية..دور حكيم ثابت وقناعة راسخة للجزائر    أكنّ للجزائر وتاريخها العريق تقديرا خاصا..وكل الاحترام لجاليتها    مهرجان عنابة..عودة الفن السابع إلى مدينة الأدب والفنون    إبراز البعد الفني والتاريخي والوطني للشيخ عبد الكريم دالي    التراث الثقافي الجزائري واجهة الأمة ومستقبلها    مطالبات بتحقيقات مستقلّة في المقابر الجماعية بغزّة    تقرير دولي أسود ضد الاحتلال المغربي للصّحراء الغربية    استقالة متحدّثة باسم الخارجية الأمريكية من منصبها    تكوين 50 أستاذا وطالب دكتوراه في التّعليم المُتكامل    ثقافة مجتمعية أساسها احترام متبادل وتنافسية شريفة    العاصمة.. ديناميكية كبيرة في ترقية الفضاءات الرياضية    حريصون على تعزيز فرص الشباب وإبراز مواهبهم    وكالة الأمن الصحي..ثمرة اهتمام الرّئيس بصحّة المواطن    تحضيرات مُكثفة لإنجاح موسم الحصاد..عام خير    تسهيلات بالجملة للمستثمرين في النسيج والملابس الجاهزة    المسيلة..تسهيلات ومرافقة تامّة للفلاّحين    استفادة جميع ولايات الوطن من هياكل صحية جديدة    قال بفضل أدائها في مجال الإبداع وإنشاء المؤسسات،كمال بداري: جامعة بجاية أنشأت 200 مشروع اقتصادي وحققت 20 براءة اختراع    الشباب يبلغ نهائي الكأس    بونجاح يتوّج وبراهيمي وبن يطو يتألقان    خلافان يؤخّران إعلان انتقال مبابي    بعد إتمام إنجاز المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية: سيساهم في تعزيز السيادة الرقمية وتحقيق الاستقلال التكنولوجي    سوناطراك تتعاون مع أوكيو    الأقصى في مرمى التدنيس    حكومة الاحتلال فوق القانون الدولي    غزّة ستعلّم جيلا جديدا    جراء الاحتلال الصهيوني المتواصل على قطاع غزة: ارتفاع عدد ضحايا العدوان إلى 34 ألفا و356 شهيدا    الأمير عبد القادر موضوع ملتقى وطني    باحثون يؤكدون ضرورة الإسراع في تسجيل التراث اللامادي الجزائري    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    بن طالب: تيسمسيلت أصبحت ولاية نموذجية    هذا آخر أجل لاستصدار تأشيرات الحج    المدرب أرني سلوت مرشح بقوّة لخلافة كلوب    جامعة "عباس لغرور" بخنشلة: ملتقى وطني للمخطوطات في طبعته "الثالثة"    "العميد" يواجه بارادو وعينه على الاقتراب من اللّقب    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    أمن دائرة عين الطويلة توقيف شخص متورط القذف عبر الفايسبوك    سيدي بلعباس : المصلحة الولائية للأمن العمومي إحصاء 1515 مخالفة مرورية خلال مارس    أحزاب نفتقدها حتى خارج السرب..!؟    مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب المجفف: المرحلة الأولى للإنتاج ستبدأ خلال 2026    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    حوالي 42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    هلاك 44 شخصا وإصابة 197 آخرين بجروح    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    الجزائر العاصمة.. انفجار للغاز بمسكن بحي المالحة يخلف 22 جريحا    من 15 ماي إلى 31 ديسمبر المقبل : الإعلان عن رزنامة المعارض الوطنية للكتاب    المهرجان الوطني "سيرتا شو" تكريما للفنان عنتر هلال    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لبنان النموذج.. لبنان الضحية: لماذا يتأمر العرب على بلد الحضارة
نشر في الشروق اليومي يوم 05 - 08 - 2006

إسرائيل‮ تقتل‮ أطفال‮ العرب‮ في‮ قانا‮.. رجال‮ "‬الدين‮" في‮ المملكة‮ السعودية‮ يفتون‮ بعدم‮ جواز‮ مساعدة‮ المقاومة‮ اللبنانية‮.‬
رجال‮ حزب‮ الله‮ يقاتلون‮ عدوا‮ صهيونيا‮ عنصريا‮ مغتصبا‮ ومتسلطا‮ لا‮ يخفي‮ كرهه‮ ومقته‮ للعرب‮.. الرئيس‮ المصري‮ حسني‮ مبارك‮ يعلن‮ صراحة‮ أن‮ لا‮ أحد‮ يستطيع‮ أن‮ يجر‮ مصر‮ إلى‮ حرب‮ ضد‮ إسرائيل‮.‬ المدنيون‮ اللبنانيون‮ يقتلون‮ بكل‮ وحشية‮ والإدارة‮ الأمريكية‮ تساند‮ إسرائيل‮ وتمدها‮ بالقنابل‮ الذكية‮ بينما‮ القادة‮ العرب‮ يعلنون،‮ دون‮ خجل،‮ أنهم‮ أصدقاء‮ أمريكا‮.
أحمد‮ عظيمي
لبنان‮ يحاصر‮. لبنان‮ يضرب‮ برا‮ وجوا‮ وبحرا‮.. "‬الشيء‮" الذي‮ اسمه‮ الجامعة‮ العربية‮ لا‮ يستطيع‮ حتى‮ أن‮ يصدر‮ بيانا‮ يدين‮ فيه‮ إسرائيل‮.‬
ماذا يجري؟ لماذا كل هذا الحقد على الشعب اللبناني بالذات؟ لماذا يتنكر ذوو القربى للأخ الأصغر؟ لماذا لا تتحرك جيوش الدول العربية المجاورة، التي سماها أحد الصحافيين ب "الجيوش المكرشة"، والتي تلتهم ملايير الدولارات سنويا من قوت الشعوب في عقود تسليح مشبوهة، لماذا‮ لا‮ تتحرك‮ لنصرة‮ المحقور؟
كيف‮ يفسر‮ موقف‮ النظام‮ السعودي‮ من‮ المقاومة‮ اللبنانية‮ الذي‮ يصفها‮ بالمغامرة‮ ويحرك‮ أبواقه‮ "‬الدينية‮" لتبطل‮ جهاد‮ العرب‮ المسلمين‮ في‮ لبنان؟
ما‮ الذي‮ يزعج‮ الرئيس‮ المصري‮ ويجعله‮ لا‮ يكف‮ عن‮ النشاط‮ من‮ أجل‮ كسر‮ المقاومة‮ اللبنانية؟‮
حدود‮ إسرائيل‮ هي‮ مع‮ أربع‮ دول‮ عربية‮: مصر،‮ سوريا،‮ الأردن‮ ولبنان؛‮ فلماذا‮ حدودها‮ مع‮ الدول‮ الثلاث‮ الأولى‮ هي،‮ منذ‮ أكتوبر‮ 1973،‮ آمنة‮ وهادئة‮ بينما‮ يختلف‮ الأمر‮ على‮ الحدود‮ مع‮ لبنان؟
أسئلة‮ كثيرة‮ تطرح‮ منذ‮ بداية‮ العدوان‮ الإسرائيلي‮ على‮ هذا‮ البلد‮ العربي‮ الصغير‮.‬
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، ولإدراك خلفيات مواقف الأنظمة العربية لا بد من التعرض أولا لأهمية لبنان على الساحة العربية ثم للأحداث التي تتوالى على منطقة الشرق الأوسط منذ مرحلة السبعينيات من القرن الماضي والأحلاف والمحاور التي نشأت أو أنشئت لحماية هذه الكتلة‮ أو‮ تلك،‮ للوصول‮ أخيرا‮ لما‮ تمثله‮ المقاومة‮ اللبنانية‮ على‮ الساحة‮ العربية‮ وتأثيراتها‮ على‮ شعوب‮ المنطقة‮.‬
لبنان‮.. البلد‮ النموذج
لبنان هو، من حيث المساحة، بلد صغير جدا (10450 كيلومتر مربع)، لكنه من حيث التحضر والإنتاج الفكري والثقافي والفني، هو بلا شك أكبر بلد عربي. اللبنانيون هم من أدخلوا الحداثة على الفكر والثقافة والموسيقى العربية. إحتكاكهم بالغرب جعلهم يطلعون على الأفكار والنظريات‮ الجديدة‮ ويعملون‮ على‮ نقلها‮ إلى‮ العربية‮.‬
لبنان، يتميز عن باقي الأقطار العربية، بأنه البلد الذي تتعايش فيه 17 طائفة دينية كلها ممثلة في البرلمان. هذه الطوائف والأقليات تعلمت كيف تحترم نفسها وتحترم غيرها. هذا التنوع الذي لا مثيل له في أي قطر عربي آخر هو مصدر الغنى الثقافي والحضاري للبنان.
لبنان كان أيضا ذلك الحيز الكبير لحرية الصحافة والتعبير في هذا العالم العربي الرافض لكل جديد والذي لا زال رجال الدين فيه يطلبون من الله، في كل صلاة، أن يحفظهم من المستحدثات "فكل مستحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وصاحبها في النار". تحضر الشعب اللبناني وتميزه جعله محط رحال كل عربي باحث عن مساحة لنشر أفكاره، كما جعله مصدر قلق لأنظمة الشرق الأوسط الحساسة جدا لكل ما يتعلق بالحرية وبالديمقراطية. جمال طبيعة لبنان أغوت أغنياء الخليج الذين شيدوا فيه القصور والفنادق والملاهي يمارسون فيها فسقهم ومجونهم. هذا الوضع اللبناني المتميز وسماحة أهله جعل الأنظمة العربية تلجأ لتصفية الكثير من حساباتها واختلافاتها على أرضه. كل نظام عربي كان يخلق لنفسه مجالا في لبنان يستعمله لإغاظة أو لمحاربة نظام عربي آخر. هكذا وجدت جرائد وأحزاب وتنظيمات تابعة لهذا البلد أو ذاك. الديكتاتوريات العربية استغلت‮ الديمقراطية‮ وحرية‮ التعبير‮ المتوفرة‮ في‮ لبنان‮ لتتصارع‮ على‮ أرض‮ هذا‮ البلد‮ الصغير،‮ ولتدخله‮ في‮ حرب‮ أهلية‮ طويلة‮ الأمد‮ أضعفت‮ كثيرا‮ مؤسسات‮ الدولة‮ وهياكلها‮.
لبنان‮ وصراع‮ القوى‮ العربية
في مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كان الصراع، في العالم العربي، بين قوى اليسار والقومية التقدمية العربية من جهة، والرجعية والسلفية الدينية من جهة أخرى. وجود زعيمان عظيمان: جمال عبد الناصر في مصر وهواري بومدين في الجزائر، في تلك الفترة، على رأس أكبر دولتين عربيتين مكن، ولسنوات عديدة، من حسم الصراع لفائدة قوى التحرر والحداثة والتقدم، رغم الاختلافات التي كانت قائمة بين العاصمتين، الجزائر والقاهرة، حول كيفية ووسائل محاربة إسرائيل، حيث كان بومدين يعلن، منذ نكسة الجيش المصري في سنة 1967، بأن الحل الوحيد لتحرير فلسطين وباقي الأراضي العربية يكمن في المقاومة الشعبية. بومدين كان ينطلق في ذلك من تجربة الثورة الجزائرية. حالة الجزائر سنة 1954 لا تختلف عن حالة فلسطين سنة 1967 ولا حتى هذه السنة (2006). انطلاقا من هذا الموقف وإيمانا منها بأهمية التحرر الكامل لكل‮ الجسم‮ العربي،‮ كانت‮ الجزائر‮ تسجل‮ حضورها‮ ومساندتها‮ القوية‮ للثورة‮ الفلسطينية‮ وكذلك‮ لمصر‮ وسوريا‮ ولبنان‮.‬
غياب الرئيس المصري جمال عبد الناصر، في بداية السبعينيات، إثر سكتة قلبية، وخلافة أنور السادات له ثم وفاة هواري بومدين، بعد سنوات قليلة، وكذلك دخول العراق في حرب طويلة ومدمرة مع إيران، كل ذلك أضعف التيار التقدمي في العالم العربي لصالح قوى التخلف والسلفية الدينية‮ الداعية‮ إلى‮ الركوع‮ وطاعة‮ أولي‮ الأمر‮ والاهتمام‮ بالمظاهر‮ بدل‮ اللب‮.
وفاة‮ هواري‮ بومدين،‮ حدثت‮ في‮ نفس‮ الفترة‮ التي‮ قامت‮ فيها‮ الثورة‮ الإيرانية‮ ضد‮ الشاه‮ وضد‮ الوجود‮ الأمريكي‮ بإيران‮.‬
لبنان‮ والصراع‮ الوهابي‮-‬الشيعي
العلاقات السعودية الإيرانية، في زمن الشاه، كانت أكثر من جيدة. إيران مثلت، في ذلك الوقت، النسق الأمامي في استراتيجية ما كان يعرف في تلك المرحلة بالامبريالية الأمريكية، وذلك لموقعها المميز بمحاذاة الاتحاد السوفييتي ولثروتها البترولية الكبيرة وكذلك لسيطرتها على‮ الخليج‮ العربي‮.‬
المملكة السعودية من جهتها، كانت، ولازالت، قطعة أخرى في الاستراتيجية الأمريكية لما تمثله من ثروة بترولية وثقل ديني بالنسبة للمسلمين جميعا. هذه المملكة وجدت نفسها غداة قيام الثورة الإيرانية عارية تماما. في أطروحة دكتوراه ناقشناها أمام لجنة من جامعة ڤرونوبل بفرنسا، سنة 1994، بعنوان "تنامي الإسلاموية من خلال الصحافة الأسبوعية الفرنسية" لاحظنا كيف أن الخطر الأول الذي واجهته السعودية إثر قيام الثورة الإسلامية بإيران تعلق بأمن المملكة، فسقوط الشاه أزال من الوجود حليفا للحكم السعودي. هذا الحليف الساقط كان يشكل "طوقا أمنيا" في مواجهة الاتحاد السوفييتي، العدو الشيوعي الذي لم تعترف به السعودية سوى بفترة قصيرة قبل سقوط الإمبراطورية الشيوعية. إنهيار عرش البهلوي تزامن أيضا مع انهيار أسطورة القوة الأمريكية التي لا تقهر. السعوديون، الذين يرتبط مصير نظامهم بالولايات المتحدة،‮ اكتشفوا‮ فجأة‮ بأن‮ هذه‮ القوة‮ الأمريكية‮ الخارقة‮ هي‮ في‮ الحقيقة‮ جد‮ عاجزة‮ وتجاوزها‮ الزمن‮ ومهانة‮ من‮ طرف‮ الثورة‮ الإيرانية‮ (‬قضية‮ احتجاز‮ الدبلوماسيين‮ الأمريكيين‮ وفشل‮ محاولة‮ تحريرهم‮ بالقوة‮).
الخطر الثاني الذي واجه السعودية ولا زال يواجهها، يتعلق بدورها في العالم الإسلامي، حيث أصبحت تتعرض لمنافسة بلد آخر. ثورة إسلامية تعارض احتكار النظام السعودي للإسلام. إنه إسلام آخر يشق طريقه وفق نظام حكم مبني على الشورى، كما أمر به الله تعالى في كتابه العزيز،‮ وليس‮ على‮ أسلوب‮ توريث‮ الحكم‮. إنه‮ إسلام‮ ثوري‮ ومعارض‮ وفي‮ قطيعة‮ تامة‮ مع‮ الإسلام‮ السلفي‮ الرافض‮ للاجتهاد‮. إسلام‮ إيران‮ هو‮ إسلام‮ سياسي،‮ إسلام‮ المحرومين‮ الثائرين‮ ضد‮ إسلام‮ القصور‮ وحلفاء‮ الغرب‮.‬
أمام هذا الإسلام الداعي إلى التحرر من السيطرة الغربية اكتشفت المملكة السعودية، الأقوى من بين دول الخليج، بأنها ليست في الحقيقة سوى مجرد برميل ضخم من النفط وكيس كبير من البترودولارات، وانتبهت إلى أنها غير قادرة حتى على استعمال الأسلحة التي اقتنتها من الغرب بملايير الدولارات، وأكثر من ذلك، إن بعض هذه الأسلحة (طائرات الأف 15 مثلا) ليس لها في الواقع أي مدى استراتيجي، فقد أفرغت من محتوياتها الإلكترونية الجد متقدمة قبل تسليمها لهذا البلد. هذا الوضع جعلها تشجع العراق، الذي له مشاكل حدودية مع الدولة الفارسية منذ زمن بعيد، على استغلال فرصة انهيار الجيش الإيراني ليدخل في حرب ضد إيران. في 20 سبتمبر 1979 أمضت المملكة السعودية ودول الخليج الأخرى اتفاقية دفاع مشترك مع العراق قبل أن يزج بجيشه، سنة 1980، في حرب طويلة ضد إيران كلفت الأمة الإسلامية ملايين القتلى ومئات الملايير‮ من‮ الدولارات‮.
أمام الخطر المحدق بها، راحت الوهابية تخوض صراعا مريرا ضد الإسلام الشيعي. قيام الثورة الإيرانية والزخم الذي أحدثته أضعف التأثير الروحي الذي كانت تمارسه السعودية على المسلمين البسطاء الذين لا يفرقون بين الأماكن المقدسة وبين السلطة السعودية.
ما يحرك النظام السعودي ليس بطبيعة الحال غيرته على الإسلام ولا على العروبة، بل المسألة كلها مسألة تموقع. عندما كانت إيران قاعدة أمامية لأمريكا كانت المودة تسود العلاقات السعودية-الإيرانية، ولما قامت الثورة في البلد الثاني وتغير موقعها لتصبح من ألد أعداء الولايات المتحدة الأمريكية معتبرة إياها الشيطان الأكبر، تغيرت نظرة النظام السعودي إلى إيران وأصبح يحارب هذه الثورة وهذا البلد مستعملا في ذلك مسألة الاختلاف المذهبي. الصراع السعودي- الإيراني إمتد إلى عدة جهات من العالم، ولبنان الصغير كان من بين المناطق التي كانت‮ مجالا‮ لهذا‮ الصراع‮.‬
المسلمون الشيعة يختلفون عن المسلمين السنة بشيئين أساسيين هما الطاعة والانصياع لأوامر الإمام وتفضيل الحياة الأخرى. عندما يفتي الإمام الشيعي بالجهاد في سبيل الإسلام وفي سبيل علي وآل البيت ينطلق الشيعي نحو ساحة القتال مؤمنا بأن مثواه، إن استشهد، الجنة.
رجال نصر الله، الشيعة الذين يجاهدون ضد عدو العرب والمسلمين، يزعجون بعملهم هذا النظام السعودي الوهابي الذي لا يؤمن إطلاقا بشيء اسمه الجهاد. نتذكر هنا أن أحد ملوكهم كان أعلن، في إطار المزايدات على إيران، منذ أكثر من عشر سنوات، بأنه سيعلن الجهاد المقدس ضد إسرائيل،‮ وانتظر‮ العرب‮ أن‮ يفعل‮ ذلك،‮ وبعد‮ مدة‮ من‮ الزمن‮ سأله‮ أحد‮ الصحافيين‮ عن‮ الوقت‮ الذي‮ سيعلن‮ فيه‮ بداية‮ الجهاد‮ فكان‮ رده‮ أن‮ الجهاد‮ ليس‮ بالسلاح‮ فقط‮ فقد‮ يكون‮ أيضا‮ بالكلام‮ أو‮ بأشياء‮ أخرى‮....‬
"الجهاد" السعودي لا يخاض ضد المسلمين الشيعة في لبنان فقط بل ضد كل الشعوب العربية التي تختلف مع هذا البلد في طرحها وتصورها لحل المسائل والقضايا العربية العالقة ومنها القضية الأساسية للعرب: القضية الفلسطينية. نتذكر هنا، الموقف الجزائري الرافض للحرب ضد إيران، وكيف أن الجزائر كانت تربط كل مواقفها العربية بالقضية الفلسطينية. الشاذلي بن جديد كان يكرر باستمرار أن المقياس في علاقات الجزائر بإيران هو موقف هذا البلد الأخير من القضية الفلسطينية. الجزائر رفضت الانسياق وراء الموقف السعودي من إيران، وأكثر من ذلك دعمت علاقاتها بهذا البلد، لأن ثورته طردت السفير الإسرائيلي ومنحت نفس البناية التي كان يستعملها كسفارة لبلده، منحتها الثورة الإيرانية لياسر عرفات ليفتح فيها سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما قامت الدبلوماسية الجزائرية بدور كبير لإيجاد مخرج لقضية الرهائن الأمريكيين المحتجزين من طرف الطلبة الإيرانيين. هذه المواقف المناقضة تماما لمصالح اللوبي الأمريكي-الصهيوني ولأهداف السلفية الدينية، كان لا بد أن تدفع الجزائر ثمنها. لم يعد سرا الدور الذي قامت به السعودية في جر المئات من الشباب الجزائري نحو أفغانستان وتحويلهم إلى وحوش بشرية ترى في القتل وسيلة للتقرب إلى إله هو بريء منهم ومن الذين برمجوهم. فتاوى رجال الدين "السعودي" أباحت القتل والتخريب في الجزائر فكانت النتيجة آلاف القتلى من خيرة أبناء هذا البلد. في الجزائر مسلمون سنة وليسوا شيعة، ومع ذلك أباحت الفتاوى هدر دم الجزائريين العرب المسلمين السنة. لقد سقطت كل الأقنعة، وما كان يمارس في الخفاء أصبح خلال السنوات الأخيرة يمارس علانية. الجزائر دفعت غاليا ثمن الفتاوى السعودية لأن رجالها بقوا محافظين على النخوة والشرف والكرامة.
مصر‮.. حكامها‮ لمن‮ دفع
أمام نقص الرجال، يضطر المال السعودي إلى الاستنجاد بالمختصين المصريين لإعادة "خلق" الإنسان العربي ليكون ذلك التافه بدون هدف ولا مبدأ ولا تفكير. القنوات التلفزية السعودية، مثل روتانا والقنوات الدينية ك "اقرأ"، تهدف إلى تشكيل وبرمجة الإنسان العربي الجديد على‮ إيقاع‮ الراقصات‮ والممثلات‮ المصريات‮ أو‮ دعاوى‮ الجيفري‮ والسويدان‮ وعمرو‮ خالد‮.‬
بعد سقوط نظام الشاه، قدمت مصر نفسها للأمريكيين على أنها النواة الصلبة في المنطقة. الرئيس المصري، أنور السادات، عمل الكثير لإقناع الرئيس الأمريكي جيمي كارتر بأن مصر وحدها التي تملك الوسائل البشرية اللازمة لفرض السياسة الأمريكية في المنطقة. مصر تحصلت بالفعل على‮ مساعدة‮ مالية‮ وعسكرية‮ معتبرة‮ من‮ الأمريكيين‮ ومن‮ دول‮ الخليج،‮ وأصبحت‮ القطعة‮ الرئيسية‮ في‮ المحور‮ الجديد‮: المملكة‮ السعودية‮- مصر‮- إسرائيل‮.‬
منذ ذلك الوقت ومصر تقوم بدور خطير على الساحة العربية. لقد استعملت أبواق دعايتها وإنتاجها السمعي-بصري "لفرض" تصور جديد للإنسان العربي المتخاذل والمخنث والقابل لكل أنواع الرخص و"الطحين" بالمفهوم الجزائري.
دور مصر، في إطار عولمة العالم العربي، هو منع أي إصلاح أو تغيير أو تطور في الهياكل والأفكار والرؤى. تكفي الإشارة هنا لما أصاب مصر من هيجان لما طرحت الجزائر، التي كانت تتهيأ لاستقبال القمة العربية على أرضها، فكرة إصلاح هياكل الجامعة العربية.
حكام مصر، التي قال عنها عمر بن العاص إن رجالها لمن غلب، هم اليوم لمن دفع، ولأن السعودية تدفع وأمريكا تدفع فلا يمكن للعالم العربي أن ينتظر أي دور إيجابي لمصر في عملية التحرر من السيطرة الصهيونية-الأمريكية.
ما يزعج الرئيس المصري اليوم، ويجعله يلهث في كل مكان للقضاء على المقاومة اللبنانية، هو تململ الشارع المصري بمثقفيه وفنانيه ورجال دينه الذين اكتشفوا فجأة أن الجيش الإسرائيلي ليس تلك القوة التي لا تقهر وأنه من الممكن جدا تحرير كل الأرض العربية عن طريق المقاومة الشعبية. الشارع المصري بدأ يتساءل عن جدوى الجيش المصري العرمرم الذي يكلف الملايير من الدولارات تقتطع من قوت الغلابة. رجال حزب الله، وهو مجرد حزب، أحرجوا بمقاومتهم النظام المصري الذي وضع نفسه وصيا على الأمة العربية ووعدها بحل القضية الفلسطينية بالطرق السلمية‮.‬
الشارع‮ المصري‮ يطالب‮ بطرد‮ السفير‮ الإسرائيلي‮. هذا‮ الشارع‮ يشبه،‮ اليوم،‮ كثيرا‮ الشارع‮ المصري‮ قبل‮ الإطاحة‮ بالملكية‮ وطرد‮ الإنجليز‮.‬
النصر‮ العربي‮ الثاني‮.. منذ‮ سقوط‮ الأندلس
منذ سقوط الأندلس، لم يعش العرب نشوة النصر سوى مرتين اثنتين فقط، الأولى دامت سبع سنوات ونصف. كان ذلك خلال الثورة الجزائرية التي حركت الجماهير في كل أنحاء الوطن العربي وجعلتها جسدا واحدا يتحرك على أنغام هذه الثورة. الثورة الجزائرية أحدثت أثرا عميقا في الكيان العربي، فكان استقلال الجزائر نشوة النصر الأولى للعرب، منذ 1492. نشوة النصر الثانية يعيشها الجسم العربي منذ سقوط أول صاروخ لحزب الله على رؤوس اليهود. اللبنانيون، لأنهم يشبهون كثيرا الجزائريين، لم تخيفهم قوة الجيش الإسرائيلي ولا وقوف أمريكا إلى جانب هذا الكيان الدخيل. المقاومة اللبنانية حطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، كما حطمت الجدار النفسي بضربها عمق إسرائيل. هذا ما كانت تدعو إليه الجزائر لتحرير فلسطين. المقاومة الشعبية طويلة الأمد وحدها تحرر الأرض، أما جيوش بلدان الجوار فلا تستطيع، لاعتبارات كثيرة، تحقيق أي نصر. إسرائيل تتمنى اليوم الدخول في حرب ضد أي جيش من الجيوش العربية المجاورة، وحتى ضدها جميعا، لتتغلب عليها وتحقق النصر في أوقات قياسية، على مواجهة مقاومة تعمل وفق حرب العصابات، خفيفة، سريعة الحركة، تظهر وتختفي بسرعة، تتميز بالشجاعة والثبات، رجالها يغذيهم الإيمان وتحركهم الأخلاق ويتمنون الشهادة. خلال تنظيم أول ملتقى لكتابة تاريخ الثورة المسلحة بنادي الصنوبر، منذ 25 سنة، سألت السيد عبد الله بن طوبال، الذي كان من بين الذين فجروا الثورة الجزائرية سنة 1954، سألته كيف غامرتم وأنتم مجموعة قليلة بدون تسليح وبدون أي تكوين عسكري بالقيام بثورة ضد جيش واحدة من أكبر الدول في ذلك الوقت، ألا ترون أن في ذلك جنونا؟ إبتسم سي عبد الله لسؤال شاب في مقتبل العمر، قبل أن يجيب بهدوء قائلا: لو أننا أولينا اهتماما لقوة الجيش الفرنسي وتسليحه ووقوف الحلف الأطلسي إلى جانبه لما قامت الثورة‮ لحد‮ اليوم‮. إن‮ في‮ الثورة‮ شيء‮ من‮ الجنون‮ ومن‮ المغامرة‮.‬
لقد غامر مجاهدو لبنان وسينتصرون بلا شك. سينتصرون لأنهم أصحاب حق، وحتى لو تمكنت إسرائيل من القضاء على حزب الله في لبنان فستجد أمامها، في وقت قصير جدا، الآلاف من الشباب العرب الذين سيكونون أشد عليها من رجال حزب الله. لقد قالها سيد شهداء الجزائر: أرموا بالثورة في الشارع وسيلتقطها الشعب. الثورة هي اليوم في الجنوب اللبناني وقد احتضنها مئات الآلاف من شباب العرب. ومثلما كان هناك ما قبل وما بعد الثورة الجزائرية فسيكون هناك ما قبل وما بعد ثورة حزب الله.
عقيد‮ متقاعد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.