الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر ، هناك دولة جزائرية ممتدة تقريبا على نفس الحدود الجغرافية التي تمتد عليها الآن ، كما برزت الشخصية الجزائرية ، واكتساب مكانة و هيبة دولية من خلال وجود سلطة مركزية برئاسة الداي الذي هو رئيس الدولة الجزائرية و القائد العام للجيش ،كذلك وجود تمثيل دبلوماسي و عقد المعاهدات والاتفاقيات باسم دولة الجزائر . عرفت الدبلوماسية الجزائرية نوعا من الاستقلالية عن الباب العالي ( الدولة العثمانية ) ، حيث تمتع الداي بصلاحيات واسعة في عقد الإتفاقيات و إعلان الحرب و عقد الصلح ،بالشكل الذي يراه مناسبا ، و لا يبعث إلى السلطان إلا من باب إعلامه بما يحدث ، حتى لا تنقطع الرابطة المعنوية التي كانت تجمع الإيالة بالدولة العثمانية . و قد استطاع الدايات بفعل تمكنهم من هذه المهمة ، ضبط العلاقات الخارجية بشكل يتلاءم من جهة مع تبعيتهم للدولة العثمانية ، و يتلائم من جهة أخرى مع الخصوصية التي تمتعت بها الجزائر كقوة كبيرة في غرب المتوسط ، و يتفق من ناحية ثالثة مع طبيعة التجاذب والصراع على مستوى المنطقة كلها . و مما زاد في استقلالية الجزائر و حكامها ،أن الدايات أصبحوا يعتبرون أنفسهم كحلفاء للباب العالي فقط فهم لا يتعاملون مع الدول الأوربية باسم القسطنطينية، بل يتصلون بالأوربيين مباشرة باسم الجزائر ، دون اعتبار لمصلحة الباب العالي ، كما أن ممثلي الدول الأوربية لدى الجزائر و إيالات الغرب الأخرى (طرابلس الغرب و تونس ) أصبحوا يتجاهلون السيادة العثمانية في تعاملهم مع هذه الإيالات ، و لاسيما ممثل فرنسا الذي أصبح يلقب منذ بداية القرن التاسع عشر بالمكلف بالأعمال ، و هذا ما جعل العلاقة بين فرنسا و الجزائر تكتسي صبغة خاصة. و يظهر لنا مدى استقلال الكيان الجزائري عن الدولة العثمانية في إلغاء منصب الباشا الذي فرضه السلاطين على الدايات ، سنة 1711م ،عندما منع الداي علي شاوش ، إبراهيم باشا مبعوث الباب العالي من دخول الجزائر بحجة تسببه في إثارة القلاقل. و نجح علي شاوش بالفعل في الحصول على لقب الباشا من السلطان بفضل الهدايا و سياسة المر الواقع ، مما زاد في تدعيم استقلال الجزائر عن الإمبراطورية العثمانية ونفس الشيء حدث مع الداي عبدي باشا إذ أصبحت العلاقة مع الباب العالي أيضا علاقة محدودة ، فقد أرسل السلطان مسؤولا ليتولى المنصب الشرفي حتى يستعيد نفوذه ، ولكن عبدي باشا خيب أماله و منع المندوب من النزول ، و قد قاوم حتى وساطة الباب العالي في المشاكل الخارجية باعتبار ذلك تدخلا في مشاكل الجزائر الداخلية ، فرفض وساطة الدولة العثمانية من أجل الصلح مع إسبانيا عام 1725م و عام 1726م ، كما رفض تسليم المتمرد شركس محمد لمبعوث السلطان. كما قاوم الداي في عام 1729م محاولة السلطان عندما أرسل مبعوثا خاصا وأضفى عليه لقب الباشاوية ، و رفض نزوله و ظل راسيا في رأس ماتيفو دون الحصول على أي نتيجة فأرغم على الإنسحاب و الرجوع إلى اسطنبول ، بل و أكثر من هذا ، فكم من مرة ردّ دايات الجزائر بعنف على مبعوثي السلاطين العثمانيين ، بل وقنبلوا سفنهم عند مغادرة ميناء الجزائر ، ومنذ ذلك الوقت صار دايات الجزائر يحصلون على فرمان التعيين في منصب الداي و لقب الباشا من السلطان مقابل الإعتراف بالسلطة الروحية و الشرعية للسلطان العثماني على المسلمين ، و هذا ما جعل صلاتهم باسطنبول لا تحمل أي معنى للتبعية ، و في ذلك يقول : "أندري ميكال " : " أن جزائر القرن الثامن عشر القوية قد استدارت بظهرها لتركيا ". و يمكن أن نذكر في هذا السياق ما حدث سنة 1817م حيث قرر علي خوجة التخلص من سيطرة الأوجاق الذين كانوا يعتبرون آخر ما يربط الباب العالي بالجزائر ، فغادر الجنينة و انتقل إلى القصبة ، مستعينا بالكراغلة و زواوة و أشركهم في الحكم ، و أعاد عددا من الجنود الأتراك إلى اسطنبول ، فعرفت بذلك الجزائر تحولات سياسية جذرية في نظام الحكم ، وانحلت بذلك أواصر العلاقات الودية بين السلطان و حكومة الجزائر ، غير أن هذه المحاولة كانت متأخرة و لم يكتب لها الاستمرار لوفاة علي خوجة بالطاعون في يوم 22 مارس 1818م. و رغم ذلك ظلت العلاقة بين الجزائر و الدولة العثمانية مستمرة لحاجة الجزائر إلى الأوجاق ، و لعل هذا ما حال دون القطيعة مع السلطة العثمانية . وقد لعبت الدولة العثمانية دور الوسيط في الصلح بين الجزائر و تونس ، كما كانت الجزائر خير سند للسلطان في حروبه حيث شارك الأسطول الجزائري إلى جانب الأسطول العثماني خلال الحروب الروسية في سنوات (1769-1774-1789م) ، وعندما غزا نابليون مصر سنة 1798م ، قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع فرنسا تضامنا مع الدولة العثمانية ، و أغلقت مراكزها التجارية بسواحل القالة و عنابة ، كما أسّر البحارة الجزائريون مركبتين فرنسيتين. ما يؤكد استقلالية الجزائر التام عن الدولة العثمانية هو اسم الجمهورية الجزائرية في غالب نصوص المعاهدات و في المراسلات بينها و بين الدول الأخرى . و في حروب الدولة العثمانية ضد التكتلات الأوروبية ، تتصرف الجزائر كجزء من الخلافة العثمانية، و في الظروف العادية تتعامل مع الدولة العثمانية بكل استقلالية و سيادة و في سياق الحديث عن هذه الاستقلالية نذكر بعض الشهادات من مؤرخين غربيين عن تلك الجزئية و عن استقلالية الجزائر و سيادتها . يشير الكاتب الفرنسي "دي قرامون": " لقد كان الديوان يتخذ القرارات بكل سيادة فيعلن الحرب، و يعقد السلام ويوقع المعاهدات، و يقيم الأحلاف بدون أن يتساءل عما إذا كانت تلك القرارات المتخذة موافقة أو مخالفة لسياسة الباب العالي". أما المؤرخ "كات "فيورد في كتابه تاريخ الجزائر :«.. طوال القرن السابع عشر كانت الجزائر منهمكة في حروب ضد دول كبرى : فرنسا ، اسبانيا انجلتر... فأما علاقاتها مع الباب العالي فتكاد تكون منعدمة". ويذكر المؤرخ "غارو" : " ان تبعية الايالة المغاربية خاصة الجزائر للخلافة العثمانية مجرد تبعية إسمية" لقد أعطى احد نبلاء فرنسا ، "دوغراماي "و هو في طريقه سنة 1619م إلى اسطنبول في مهمة رسمية انطباعا حيا عن مفتاح عظمة الجزائر في تاريخ البحر الأبيض المتوسط ، فيقول : "مدينة الجزائر ذلك السوط المسلّط على العالم المسيحي ! انهار عبء أوروبا و لجام ايطاليا و اسبانيا و صاحبة الأمر في الجزر" . و الجزائر و هي في أوج قوتها قامت بمبادرات جديرة في قضايا البحر الأبيض المتوسط سواء بالنسبة للأوروبيين أو للحكومات التابعة للخلافة العثمانية اذ لم يكن أي حدث يقع في حوض البحر الأبيض المتوسط من دون أن تشارك فيه البحرية الجزائرية . اتسع نطاق المساعدة الجزائرية للدولة العثمانية من خلال طلب السلطان مراد الرابع (1623-1639م) من الأسطول الجزائري المشاركة في الحرب ضد جمهورية البندقية سنة 1630م فذهب الأسطول بقيادة علي بتشين و هو يتكون من عشرين سفينة ، و بسبب العواصف البحرية اضطر البحارة إلى النزول بالبر فداهمتهم قوات البنادقة و ألحقت بهم الهزيمة فقتل و أسر المئات من البحارة الجزائريين وكانت هذه الحادتة بمثابة ضربة قاسية لرياس البحر. و تمكن الأسطول التجاري و البحري للجزائر في عهد بابا علي شاوش (1710-1718م)، من المشاركة إلى جانب الأسطول العثماني في حربه ضد البنادقة والنمسا خلال سنوات (1714 1718م). و إذا القينا نظرة عامة عن حجم المساعدات البحرية الجزائرية للدولة العثمانية خلال الفترة الممتدة من 1771-1827م ، نلاحظ عددا من النتائج المهمة ، فمنذ تصريح قيصر روسيا : "كاترين الثانية (cathrine II)" في صرختها الموجهة للدولة العثمانية سأحرق عاصمة السلطنة من الجهات الأربعة دفعة واحدة و قد بدأ بعد ذلك لهيب الثورات ينتشر في الأقاليم الأوروبية التابعة للدولة العثمانية بتحريض من روسيا و بعض القوى الأوروبية. ففي عهد السلطان مصطفى الثالث (1757-1773م) أرسلت الجزائر أسطولا بقيادة الرايس علي يونس الذي مكث في خدمة السلطان زهاء خمسة سنوات. كما دعمت القوات البحرية العثمانية بأسطول ثاني بقيادة علي الحاج محمد و ثالث بقيادة الحاج سليمان، و نستشف حجم هذه المساعدات من خلال رواية الشريف الزهار:« أنه في سنة 1228ه /1813 م، سافرت المراكب الجهادية(الجزائر) بقصد غزو الكاريك (اليونانيون) و معهم الرايس حميدو، فأخذو منهم (الثوار اليونانيين الذين كانوا ثائرين على الدولة العثمانية من أجل الاستقلال عنها) ، أكثر من عشرين مركبا مسوقة بالقمح و السلع، منها ثلاثة كرايط (كورفيت) من غير مدافع...". و تزامن عهد السلطان محمود الثاني بقيام الثورة اليونانية عام 1820م حيث ساندت بعض الأطراف الأوربية الثوار بالسلاح و الرجال و العتاد ، إذ تطوع حشد كبير من سكان ألمانيا و بولونيا واليونانيون اللاجئون بسويسرا ، و اتخذت الحرب صبغة صليبية ، و لم يتوان الأسطول الجزائري في حماية السلطة العثمانية من الأخطار المحدقة بها ، فأرسلت الحكومة الجزائرية أسطولا يتكون من عشرة سفن، بقيادة الحاج علي رايس و الحاج خليل. و نلتمس قيمة الدعم العسكري الجزائري للبحرية العثمانية من خلال رسالة بعث بها مسؤول رفيع المستوى يصف البحارة الجزائريين : " في هذا البلد (الدولة العثمانية) مسلمون ومسيحيون يمجدون عظمة إيالة الجزائر، بسبب شجاعة محاربيها وأبطالها و مدى سمعتهم في البر و البحر، و الذين سجلوا انتصارات عديدة على كثير من الأمم، لكل المسلمين يدعون الله لتسهيل قدوم سفن هؤولاء صباحا ومساءا". و تشير رسالة أخرى موجهة الى باشا الجزائر من طرف الحاج علي قبودان الاسطول الجزائري ، يخبره فيها بأن السفن الجزائرية موجودة بالدردانيل بطلب من السلطات العثمانية، الى جانب وصول سفينة من نوع البريك بقيادة الحاج سليمان رايس، في حين أبحرت سبعة سفن جزائرية الى القسطنطينية بغرض الإصلاح والترميم و تسليحها من جديد ، و في حالة نشوب الحرب سيكون الأسطول الجزائري في حالة الاستعداد. إن أهم ما يلاحظه الدارس للتاريخ الدبلوماسي للجزائر خلال العهد العثماني، هو غيرة الجزائر على مصالح المسلمين في الغرب و الشرق . و من باب الطاعة للتقاليد الإسلامية ، الإسراع لمساعدة المسلمين من الأخطار ، و هو المبدأ الأساسي للجهاد. و قد أدّت هذه الغيرة إلى تدخل الجزائر في كثير من القضايا الشائكة ، و اعتبرت مسألة الدفاع عن مصالح الأمة الإسلامية واجبا مقدسا.
و في هذا السياق أورد المؤرخ الأمريكي " وليم سبنسر" نصا على هذه الغيرة :« إن مدينة الجزائر كعاصمة لدولة مستقرة قوية في شمال إفريقيا ، قد مثلت و معها إلى جنبها تونس و طرابلس ، القوة الإسلامية العثمانية القاطعة المنهمكة في مصارعة الصليبية كالشفرة الحادة النافذة بعمق في العالم الإسلامي". و في إحدى الرسائل كتب "جان لوفاشي (J.Levacher) "في سنة 1681م : « لا تزال قوة البحرية الجزائرية تساعد قراصنة سلا في النزول بموانئ مدينة الجزائر ، و بها تباع غنائمهم التي أخذت من الفرنسيين, و عندما تدخلت شخصيا بخصوص هذه المظالم لدى السلطات ، كانت إجابتهم بأن هؤلاء القراصنة إخوانهم في الدين, و يمكن في كثير من الحالات تقديم لهم يد العون و المساعدة, و اذا اقتضت الظروف أمددناهم بسفننا عند الحاجة ". بيّنت الحملة الفرنسية على مصر ( في 17 محرم 1213ه/2جويلية 1798م)عن قرب انتهاء الدولة العثمانية كقوة عظمى ضعف دورها في صنع العلاقات الدولية الذي شرع ينتقل الى الدول الأوربية, كما أثبتت الحملة عجز الدولة العثمانية عن حماية أراضيها من خطر التنافس الاستعماري الذي أخذ يحتدم بين تلك الدول . ومع هذا فان الحملة كانت بمثابة امتحان عسير للباب العالي حول مدى متانة علاقاته بالأيالات المغاربية و قدرته على إملاء إرادته على ولاتها , و إذا كان ذلك شأن الاحتلال الفرنسي لمصر (1798-1801م) بالنسبة للدولة العثمانية , فقد كان بالنسبة للأيالات المغاربية تهديدا مباشرا لاتصالاتها بالعاصمة العثمانية و لحرية تنقل رعاياها نحو المشرق, كما كان دليلا لإثبات المجال الجيو سياسي الذي احتلته تملك الأيالات على خريطة المخططات الاستعمارية للدول الأوروبية.و قد حكمت ثلاثة عوامل رئيسية دور الجزائر في إطار التضامن مع الباب العالي, تمثل أول تلك العوامل في علاقة الجزائر بالدولة العثمانية باعتبارها إحدى أيالاتها, و تمثل العامل الثاني في موقع الجزائر الجغرافي الذي جعلها قادرة على التحكم في الحركة البحرية بين شرقي و غربي البحر المتوسط, و بالتالي قدرتها على التأثير في الوجود الفرنسي في مصر, أما العامل الثالث فقد تمثل في العلاقات التي كانت بين الجزائر و فرنسا, إذ كانت الجزائر دائنة لفرنسا بمبالغ مالية ضخمة, علاوة على أن فرنسا قد كانت لها مصالح واسعة على السواحل الجزائرية و حاولت دوما المحافظة عليها لحماية شركاتها من الأضرار التي يمكن أن تلحق بها في حالة تهديد تلك المصالح. لقد أدرك الباب العالي بعد تقويمه لتلك العوامل , أهمية الدور الذي يمكن للجزائر أن تلعبه في الحرب الدائرة بينه و بين فرنسا و فيما يبدو أن رؤية الباب العالي كانت غير مطابقة لرؤية مصطفى باشا الذي كان اهتمامه منصبا على الجانب المتمثل في المصالح الجزائرية الفرنسية. أما بخصوص الإجراءات العسكرية فقد رأى الباب العالي ضرورة قيام الأيالة بها بغرض تعزيز الحصون وإعداد الجنود من اجل تقوية الدفاع عن الجزائر. و كذلك إرسال السفن الحربية إلى عرض البحر المتوسط لاعتراض السفن الفرنسية المتنقلة بين مينائي طولون و الإسكندرية . و بعد ان قرر الباب العالي إعلان الحرب على فرنسا و إرسال الجيش العثماني إلى مصر لتخليصها بالقوة من سيطرة نابليون, تخوفت فرنسا أن تحذو الجزائر و معها (تونس,طرابلس) حذوه و تعلن الحرب هي الأخرى عليها. و من ثم أرسلت وزارة الخارجية الفرنسية في 19ديسمبر 1798م منشورا إلى القناصل الفرنسيين في الأيالات الثلاث دعتهم فيه الى إبلاغ ولاتها بأن إعلانهم للحرب على فرنسا الى جانب الباب العالي سيجبرهم إلى التحالف مع بريطانيا و روسيا اللتين تسعيان للسيطرة على البحر المتوسط ، مما يقلص نفوذ الايالات المغاربية و يحرمها من مصادر دخل غنية و في مقدمتها موارد القرصنة. لقد جاء التحرك الفرنسي متزامنا مع تحرك الباب العالي الذي وصل مبعوثه إلى الجزائر في نفس اليوم الذي كتب فيه المنشور الفرنسي. و في الفرمان الذي حمله المبعوث العثماني أمر الباب العالي حاكم الجزائر بإعلان الحرب على فرنسا و القبض على قنصلها و جميع رعاياها و سجنهم ، و ذكر الفرمان أن الهجوم على مصر يعد اعتداءً صارخا على الدولة العثمانية و انتهاكا لحقوق رعاياها المسلمين الذين أصبح عدد كبير منهم أسرى في أيدي الفرنسيين ، و لهذا فإن الايالة ملزمة بالمشاركة في الحرب التي تخوضها الدولة العثمانية ضد فرنسا ، و ذلك بإرسال سفنها الحربية إلى البحر الأبيض المتوسط لمشاركة الأسطول العثماني في البحث عن السفن الفرنسية و احتجازها. قررت الجزائر قطع علاقاتها مع فرنسا و إعلان الحرب عليها تنفيذا لأمر الباب العالي ، و القبض على القنصل دومينبك مولتيدو (De Marie Moltedo) (1798-1800م) و الرعايا الفرنسيين في مدينة الجزائر. كما أرسلت التعليمات لباي قسنطينة بإيقاف الأعوان الفرنسيين في القل وعنابة و القالة و حجز ممتلكاتهم، بالإضافة إلى رسائل الداي مصطفى (1798-1805م) لكل من تونس و طرابلس و المملكة المغربية، يستنهضهم ضد فرنسا. أرسل نابليون بونابرت (Napoléon) مبعوثا خاصا اسمه ديبوا تانفيل (Dubois Thanville)) و معه رسالة الى الداي مصطفى باشا لعقد السلم: "... من بونابرت القنصل الأول للجمهورية الفرنسية إلى مصطفى باشا داي الجزائر : أيها السيد الأمجد الأعظم ...إن حالة الحرب بين البلدين ليست من مصلحتنا ... و إني أبعث إليكم بالمواطن تانفيل مع تفويض مطلق لإعادة العلاقات السياسية و التجارية بين الدولتين ...". و الملاحظ أن القنصل تانفيل قد أكد في العديد من التقارير المرسلة إلى باريس أهمية إعادة العلاقات بين فرنسا و الجزائر، و الفوائد الكبيرة التي ستجنيها فرنسا من وراء ذلك. و تجدر الإشارة هنا أن بونابرت قد كلّف القنصل تانفيل بإخبار الداي بأنه أمر بإطلاق سراح أكثر من ألفي مسلم كانوا محتجزين في جزيرة مالطة التي استولت عليها القوات الفرنسية في 13 جوان 1798م. و قد تمكنت فرنسا من عقد هدنة غير محدودة مع الجزائر في 31 أوت 1800م وسمحت معاهدة الصلح بين البلدين للشركات الفرنسية و مراكزها التجارية بممارسة نشاطاتها بصفة رسمية في الجزائر، كما أوقفت جميع العمليات العسكري ضد فرنسا و أعيد الاعتبار لقنصل فرنسا في مدينة الجزائر. و من المعارك المهمة بالبحر الأبيض المتوسط و التي كان فيها للجزائر مساهمة فعالة و لو بعدد قليل من السفن و الجنود ، معركة نافارين سنة 1827م التي أسفرت عن تحطيم الأسطول الجزائري ، فقد أكدت مساهمة الجزائريين في هذه المعركة على مدى الروابط الروحية و الالتزامات الأدبية التي كانت تشد الأقطار الإسلامية إلى بعضها ضمن رابطة الخلافة العثمانية. نستنتج مما سبق أن انضمام الجزائر إلى الخلافة العثمانية مثّل مرحلة انتقالية جديدة في تاريخ الجزائر ، إذ شهد ميلاد دولة جزائرية جديدة ممتدة تقريبا غلى نفس الحدود الجغرافية التي تمتد عليها الآن ، كما عرفت هذه المرحلة بروز الشخصية الجزائرية ، و اكتساب مكانة و هيبة دولية من خلال وجود سلطة مركزية برئاسة الداي الذي هو رئيس الدولة الجزائرية و القائد العام للجيش ،كذلك وجود تمثيل ديبلوماسي و عقد المعاهدات و الاتفاقيات باسم دولة الجزائر . و فيما يخص العلاقة بين الجزائر و الدولة العثمانية فهي علاقة تبادل المنافع وتضامن في مواجهة العدو المشترك ، و قد اختلفت العلاقة باختلاف مراحل الحكم العثماني بالجزائر ، حيث تحكمت فيها الظروف الإقليمية و الدولية ، فقويت بقوة الدولة العثمانية و ضعفت بضعفها .