يذكر الناقد النفساني الفرنسي "جون بيلمان نويل" في كتابه " التحليل النفسي والأدب " حكاية غير مقطوع في صحتها إلاّ أنها ذات دلالة صائبة، وهي تخصّ مؤسس التحليل النفسي النمساوي سيجموند فرويد الذي سأله أحد تلامذته عن مصادر فتوحاته في مجال المعرفة التحلينفسية، فأشار بيديه إلى مكتبته والتي تظهر فيها عيون الإبداعات العالمية: سوفوكليس، أريستوفانيس، هوميروس، دوستويفسكي، بروست وشكسبير وغيرهم. ولطالما تساءل النقاد والباحثون عن سر هذا التجاذب والتفاعل بين حقلين متمايزين، الأدب والتحليل النفسي، والإجابة في الغالب كانت تتمركز حول اللغة أو الخطاب باعتباره المادة الأساس التي يشتغل عليها كل منهما، فضلا عن أن النفس البشرية هي موضوع التحليل وفي نفس الوقت هي مصدر الإبداعات الفنية، يقول كارل يونغ تلميذ وصديق فرويد في هذا الشأن: " من الظاهر أن علم النفس، لكونه علم دراسة الخطوات النفسية، يمكن أن يستفاد منه في دراسة الأدب، فإن النفس الإنسانية هي الرحم التي تولدت منه كل العلوم والفنون.. فلنا أن ننتظر من البحث السيكولوجي أن يشرح لنا العوامل التي تجعل من الشخص مبدعا فنيا..". * اعتبر سيجموند فرويد ما قدمه في التحليل النفسي بمثابة ثورة علمية تشبه الثورة الكوبرنيكية والثورة الداروينية، فإن كان كوبرنيك قد أزاح الأرض عن مركزيتها كما كان معروفا ومتداولا منذ قرون سبقته، واعتبرها جرما يدور حول الشمس، وشارل دارون أزاح الإنسان عن مركزيته وتعاليه ومثاليته التي نالها في الدوائر اللاهوتية والفلسفية واعتبره جزءا من الطبيعة وكائنا أرقى داخل العائلة الحيوانية، فإن فرويد بدوره يحدث جرحا داخل الذات الإنسانية ويصيب نرجسيتها الفكرية باكتشافه لمنطقة مجهولة ذات أثر بالغ في تكوينه ونموه النفسي، وهي اللاشعور L'INCONSCIENT، وبهذا تكون " الأنا ليست سيدة بيتها الخاص..". وتحت تأثير سحر الخطاب الأدبي يؤسس فرويد لفرضيات التحليل النفسي بالاعتماد على الأساطير وعيون الإبداعات العالمية. فمن مسرحية "أوديب ملكا" لسفوكليس اقترح مفهوم " عقدة أوديب" ومن أسطورة " نرجس" استنتج " عقدة النرجسية".. كما اعتبر الشعراء والروائيين الكبار أهم أساتذته ومرشديه داخل غابة النفس البشرية حيث يقول: ".. إن الشعراء والروائيين هم أعز حلفائنا وينبغي أن نقدر شهادتهم أحسن تقدير، لأنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض لم تتمكن بعد حكمتنا المدرسية من الحلم بها، فهم في معرفة النفس شيوخنا، نحن الناس العاديين، لأنهم يرتوون من منابع لم يتمكن العلم بعد من بلوغها..". يثير فرويد هنا نقطة بالغة الأهمية والغموض في نفس الوقت وهي طبيعة المعرفة الناتجة عن الإبداع والخلق الفني، فهي بين السماء والأرض، أي بعيدة عن أنظار أصحاب المعارف الممنهجة أو التأملات الفلسفية، لذلك يقول أفلاطون بأن الشعراء ينطقون بلسان الوحي الإلهي، ومن هنا أدرك خطورة خطابهم فقرر إبعادهم في سياق قوانين الدولة والنظام الأخلاقي. كما نلمس اللغز المرتبط بعملية الإبداع عند العرب قديما حينما كانوا ينسبون الإبداع الشعري إلى شخصية ماورائية سموها "شيطان الشعر". فمن الطبيعي جدّا أن تشخص أبصار المفكرين والفلاسفة باتجاه السماء لإشباع نوع من الظمأ المعرفي والأنطولوجي بتلقي مياه الإبداع الشعري في أشكاله المتعددة، قصيدة ومسرحا ورواية. * بعد كتابة " تأويل الأحلام" سنة 1900م، يباشر فرويد معركة تحليل النصوص الإبداعية التي ينفذ بها إلى متاهات النفس البشرية، وهو يقر بذلك في إحدى مقالاته بقوله: " بعد استكشاف الأحلام، انطلقنا إلى تحليل الإبداعات الشعرية أولا، ثم الشعراء والفنانين بعد ذلك.. إنها المشاكل الأكثر سحرا من كل تلك التي تتلاءم مع تطبيقات التحليل النفسي..". ويمكن الإشارة إلى قراءته النافذة والاستكشافية لآثار الروائي الروسي العبقري دوستويفسكي، ولا شك أن قراءة مقاطع من " الجريمة والعقاب" أو " الإخوة كرامازوف" تسبب القلق ويتم عبرها النقر على منطقة اللاوعي، وبما أن النفس متفكّكة إلى أنا وهو وأنا أعلى، فإن هذا التشظيّ ينسحب إلى العمل الأدبي ويظهر على شكل استعارات تُلحّ على أنها آتية من منطقة بعيدة جداّ ولا يمكن لصاحب العمل أن يفقه تفاصيلها بدقّة.لذلك تقول جوليا كريستيفا أن فرويد بقراءته لدوستويسفكي يقسمه إلى أربع: الكاتب، العُصابي، الأخلاقي وصاحب الخطيئة. ولا يمكن تفسير ذلك إلاّ اعتبار دوستويفسكي يُفكّر عبر الرواية، فينقل فيها نوازعه وأحلامه وكل صراعات القوى النفسية المتمركزة بداخله. وقد اعترف الفيلسوف الألماني نيتشه بأن " صاحب الجريمة والعقاب" يُقدم عبر رواياته مادة سيكولوجية عظيمة تثري معرفتنا بالإنسان والعالم. * تعتبر قراءة فرويد للنصوص الإبداعية من الوجهة النفسية تجربة رائدة في التحليل النصي Textanalyse، وتشير كريستيفا إلى أن "التجربة التحلينفسية للنصوص الأدبية تطرح تحرّيات غير مسبوقة تتضمن تجديدا جذريا يتمثل في السفر في عمق العالم العجيب للنفس البشرية". وقد واصل أصدقاء وتلامذة فرويد المغامرة التحلينفسية مع الإبداعات الأدبية باقتراح حلول ومفاهيم جديدة لفك لغز الإبداع المرتبط بغموض العوالم النفسية. فاقترح كارل يونغ مفهوم اللاشعور الجمعي تمييزا له عن اللاشعور الفردي لدى فرويد، وعالم النفس الفرنسي جاك لاكان يوظف المفاهيم اللسانية لدوسوسير ورومان جاكوبسون لممارسة التحليل النفسي البنيوي للنصوص الأدبية، وكانت قصة "الرسالة المسروقة" للروائي الأمريكي " إدغار ألان بو" محل دراسة نفسية تطبيقية من وجهة بنيوية من طرف لاكان. وباتباع النهج البنيوي في التحليل النفسي يقترح الفرنسي شارل مورون مصطلح " النقد النفساني" Psychocritique من أجل المقاربة النصانية والنفسية للأعمال الأدبية. ويمكن أن نختم بما بدأنا به، أي الناقد جون بيلمان نويل الذي يستثمر في النقد المابعد بنيوي في التحليل النصي بالاستعانة بالتداولية ونظرية القراءة ويقترح مفهوم " لاشعور النص" لمساعدة النقد الأدبي في فك شفرة النص والنفس معا. وفي إشارة إلى فائض المعنى في النص وإلى الجزء اللاواعي فيه يقول بيلمان: " إن الكلمات المتداولة عندما تجمع بطريقة معينة، تكتسب سلطة الإيحاء باللامتوقع وبالمجهول، ومن ثم فإن الكُتّاب هم أناس، عند الكتابة، يتحدثون بدون علمهم أشياء هم لا يعرفونها بدقة. إن القصيدة تعرف أكثر من الشاعر".