جامعة "جيلالي اليابس" لسيدي بلعباس: مخبر التصنيع, فضاء جامعي واعد لدعم الابتكار    الرابطة الأولى موبيليس: مولودية وهران تضمن بقاءها وأولمبي أقبو وإتحاد خنشلة يقتربان من النجاة    الاختبارات الشفوية ابتداء من 6 جويلية    الجيش يواصل تجفيف منابع الإرهاب    قافلة الصمود تعكس موقف الجزائر    قافلة الصمود تتحدّى بني صهيون    تنويه إفريقي بدور الجزائر    رانييري يرفض تدريب إيطاليا    اختبار مفيد رغم الخسارة    جمع 721 ألف كيس من الدم في عام واحد    ارتفاع محسوس في استهلاك الماء    قضية الصحراء الغربية تبقى حصريا "مسألة تصفية استعمار"    الأسطول الوطني جاهز للإسهام في دعم التجارة الخارجية    المصادقة على مخطط العمل الوطني الخاص بموسم الاصطياف 2025    الجزائر تجدد التزامها بحماية وتعزيز حقوق الطفل    ولاية الجزائر : مخطط خاص لتأمين امتحان شهادة البكالوريا    غزة: استشهاد أكثر من 24 فلسطينيا وإصابة العشرات    افتتاح معرض الجزائر للسكك الحديدية 2025″    الفواكه الموسمية.. لمن استطاع إليها سبيلاً    بنك بريدي قريبا والبرامج التكميلية للولايات في الميزان    الجزائر نموذج للاستدامة الخارجية قاريا    الاحتلال الصهيوني يتعمّد خلق فوضى شاملة في غزّة    الارتقاء بالتعاون الجزائري- الكندي إلى مستوى الحوار السياسي    تطوير شعبة التمور يسمح ببلوغ 500 مليون دولار صادرات    الرباط تحاول فرض الدبلوماسية الصفقاتية    فلاديمير بيتكوفيتش: سنستخلص الدروس من هزيمة السويد    تأجيل النهائي بين ناصرية بجاية واتحاد بن عكنون إلى السبت    ميسي أراح نفسه وبرشلونة    إنجاز مقبرة بحي "رابح سناجقي" نهاية جوان الجاري    المرأة العنابية تحيك التاريخ بخيوط الفتلة والذهب    علكة بالكافيين.. مشروع جزائري للتقليل من إدمان القهوة    "الطيارة الصفراء" في مهرجان سينلا للسينما الإفريقية    تأكيد على دور الفنانين في بناء الذاكرة    برنامج نوعي وواعد في الدورة الثالثة    رحيل الكاتب الفلسطيني علي بدوان    تحسين ظروف استقبال أبناء الجالية في موسم الاصطياف    "كازنوص" يفتح أبوابه للمشتركين من السبت إلى الخميس    رئيس مجلس الأمة يستقبل سفيرة كندا لدى الجزائر    عنابة: عودة أول فوج من الحجاج عبر مطار رابح بيطاط الدولي    انطلاق التظاهرة الفنية الإبداعية "تيندا 25" بالجزائر العاصمة    جبهة البوليساريو تؤكد أمام لجنة ال24 : الشعب الصحراوي لن يتخلى أبدا عن حقه في تقرير المصير والاستقلال    فتاوى : أحكام البيع إلى أجل وشروط صحته    اللهم نسألك الثبات على الطاعات    القرآن الكريم…حياة القلوب من الظلمات الى النور    قِطاف من بساتين الشعر العربي    الشروع في إلغاء مقررات الاستفادة من العقار    مُخطّط خاص بالرقابة والتموين يشمل 14 ولاية ساحلية    آيت نوري: أتطلع للعمل مع غوارديولا    صور من مسارعة الصحابة لطاعة المصطفى    جريمة فرنسية ضد الفكر والإنسانية    معرض أوساكا العالمي : تسليط الضوء على قصر "تافيلالت" بغرداية كنموذج عمراني بيئي متميز    كأس الجزائر للكرة الطائرة (سيدات): ناصرية بجاية من أجل التأكيد وبن عكنون بحثا عن تحقيق انجاز غير مسبوق    صحة: اجتماع تنسيقي للوقوف على جاهزية القطاع تحسبا لموسم الاصطياف    الفنانة التشكيلية نورة علي طلحة تعرض أعمالها بالجزائر العاصمة    الاستفادة من تجربة هيئة الدواء المصرية في مجال التنظيم    الجزائر تودع ملف رفع حصة حجاجها وتنتظر الرد    تحديد وزن الأمتعة المسموح به للحجاج خلال العودة    لماذا سميت أيام التشريق بهذا الاسم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة للآخرين
مرايا عاكسة
نشر في الجمهورية يوم 21 - 02 - 2022

تذكّر المحاكاة الحاصلة مع بعض الكتاّب الذين لم يخرجوا من"معطف غوغول"، بإملاءات الناقد الفرنسي "بوالو " الذي بنى على القواعد اليونانية كمرجعية طوباوية، ما أدّى إلى ظهور أدب- ذيل مقيم في الماضي الإغريقي، مع أنّ تجربة الأدب اللاتيني في تكريس النموذج اليوناني انتهت بالحلول فيه. لقد كان النقل تقويضا للمتخيل الفردي، للجُهد العقلي، وللذكاء والخصوصية، كما سيحصل لاحقا مع الضوابط الأيديولوجية التي بدّهت الإبداع الروسي بعد الكلاسيكيات الكبرى مع تولستوي ودوستويفسكي.
الأدب الحرّ بحثٌ مستمرّ عن آليات تعبر عن كفاءة المبدع كقوة تمثيلية مستقلة عن أيّ نموذج ضاغط. إنّه مرآة الأنا، وجزء من بنى وتصورات مخصوصة، من جانب التقنيات والموضوعات، وقد يتجلى هذا التباين على مستوى الثقافة والمعتقد والخرافة والتاريخ، إضافة إلى الفرادة التي تستدعي التمايز لتفادي الذوبان في تمثلات الآخر، ومن ثمّ إعادة تصدير المستورد دون تبيئة، احتكاما إلى قاعدة بضاعتنا رُدّت إلينا.
لقد كتب "بوشكين " هالات اخترقت الحدود اللسانية، مع أنها ركزت على مُرويات محلية، تمّ استثمارها لتكون مفتوحة، وعالمية. هذا الخيار هو الذي كرّس قيمتها لأنها أصيلة.الشيء ذاته ينسحب على آثار الكتّاب الذين راهنوا على أثاثهم من منطلقات واعية بقيمة الشخصية. لقد حققت رواية "الولد الأسود" للكاتب الغيني كامارالاي شهرة لافتة، رغم أنها موغلة في المحلية التي لم تغفل القيم الإنسانية المشتركة.
إنه لمن الصّعب تخطّي روايات" نجل الفقير " و« ريح الجنوب" و«عرس بغل" و«الربوة المنسية"، وكثير من كتاباتنا التي انطلقت من بيئتها، كما أنّ شخصيات" فورولو "واللاز والأحمر ستظل راسخة في الذاكرة. هناك محمولات تجعلها ذات قيمة اعتبارية، بصرْف النظر عن مواقفنا النقدية من الأشكال، كما ركز "فيكتور هوجو" على محيطه وقناعاته كمناوئ لطبقته ، هكذا جعل من جان فالجان وكوزيت شخصيتين خالدتين، ومن رواية البؤساء تحفة أدبية ؟.
للتذكير فإن مالك حداد، رغم الحصار الذي ضرب عليه، عاش غريبا في لغة يتقنها بتفوق، وكان يتمنى أن يكتب بالعربية، ما لا تنقله الفرنسية من حالات شعورية وموصوفات أشار إليها في رواية "الانطباع الأخير"، ومع ذلك ظل في علاقة وصلية بثقافته، كجزائري ينتمي إلى أماكن مؤثثة بأمارات ممتلئة دلاليا، وقريبة من القارئ الذي يفضل الناي والخيمة والفقيه على الجاز والأوبرا و "الموناليزا" وناطحات السحاب و« كارل ماركس": إنها الحقيقة الاجتماعية والثقافية، رغم ما قد يميزها من سلبيات تحتاج إلى ذكاء لتحويلها تدريجيا، وليس إلى محو.
القارئ العربي يواجه اليوم أنظمة فكرية ومنظورات غيرية جاهزة سلفا. لقد اختفت الكثير من الأماكن والموضوعات والأشياء والأسماء والأعراف والقيم في شطحات الحداثة ، كما يسميها ميخائيل عيد، نحن، على ما يبدو، بصدد نسف ذاكرة القارئ وذوقه إرضاء للمؤسسات التي تملي تقاليد سردية وشعرية وفضاءات وثقافات مقحمة في بيئة مخصوصة.
علينا أن نتساءل عن قيمة إبداعاتنا الباحثة عن الانتشار بمجموعة من التنازلات لفائدة الرؤية الغربية للعربي والإفريقي والشرقي، عن مرجعياتها ومآلاتها، وعن فلسفة وجودها، إن كانت لها فلسفة تحتكم إليها في التفكير الحرّ، ما دامت تابعة لتجارب الآخرين ورُؤاهم للإنسان والموجودات، رغم تعارضها مع كيان الكاتب، ما يفرض علينا أن نعيد طرح السؤال التقليدي: ما علاقة الأدب بالمجتمع، بل ما فائدته أصلا في ظل تبعيته ؟.
لا أجد في الحداثات النقلية ما يدلّ على هوية النص ووظيفته الاجتماعية: لا أثر للطقوس والأطفال التعساء وأثاث الأماكن التي ننتمي إليها، لا الدراويش ولا البرنس ولا مكونات القرية وربيعها وكائناتها وحكايات الجدات الخرافية. هذه التفاصيل هي التي ألهمت الآداب العالمية، ومنها ما كتبه تشيخوف في "طفولتي"،ونجيب محفوظ في أولاد حارتنا. لقد أشار إلى قيمة هذه المحلية الشاعر الهندي طاغور بعبقرية، رغم دراسته في بريطانيا، واطلاعه على الآداب الأوروبية التي تعامل معها كهندي أصيل، وليس كتلميذ يحفظ ويطبق .
تنقص نصوصنا الجديدة رائحة التراب ، الأحاجي والنباتات والأعياد والنواميس والأساطير التي قد نختلف معها من منطلقاتنا "العالمة"، لكنها منّا. لقد فهمنا الحداثة كاستعلاء على التقاليد وانسلاخ عن الأوطان والموروثات ، كقطيعة مع المكوّنات القاعدية للقارئ ، مع أننا ندرك أنّ الابداعات العبقرية لم تمح أمّتها لتذوب في حضارة الآخر وممارساته الحياتية ، وفي مشاريعه الفكرية والسردية والشعرية : ماركيز، غانتر غراس، درويش، هؤلاء أخذوا في الحسبان أسئلة من أكون ، وماذا أكتب ، ولمن، وكيف ولماذا ؟.
وإذا كنّا نسعى، عن قُصور إدراكي أو عن مصلحة أيديولوجية، إلى محاكاة الأوروبيين والأمريكيين، فذاك يعني أنّنا نفتعل أدبا لا يعبّر عن حقيقتنا ، ولا عن أحاسيسنا وقناعاتنا وأعماقنا وجغرافيتنا، كما لو أننا نتباهى بالمسروقات علنا. ليس من حقنا، في ظل نبذ ميراث المجتمع، أن نطرح مشكلة المقروئية ما دُمنا نركّب نصوصا تعبث بالمتلقي ومقوّماته خدمة للمركزيات التي تمنح الألقاب للآداب المهاجرة. إننا نكتب للأجانب بعيون الأجانب.
هناك تغييب للذات وللخيال في نصوص تمثلت الحداثة كتجليات، كتسليع وتشيئ، وليس انطلاقا من جانبها التنويري، ومن نموها الحلقي الذي يتطلب سلسلة من التغييرات التي تنطلق من روح المجتمع لإقناع المتلقي كطرف قاعدي. لقد أصبحنا موالين لعقل الآخر في التحديث، مع أن الآخر لا يرغب في الامحاء فيه، إنه يتطلع إلى معرفة الآخرين الذين يختلفون عنه ثقافة ودينا وبيئة وشعائر، وليس أولئك الذين يستنسخون تجربته إرضاء لدور النشر التي تحدد الموضوع والرؤية.
هؤلاء الذين يركزون على السخرية من المعتقد والرموز والتاريخ والاعلاء من شأن الثقافة الاستهلاكية، على حساب الحقائق والقيم لا يبصرون معاناة الشعوب، وهم يعرضون إبداعات مؤسساتية تتفادى الحديث عن القهر الغربي، عن صناعة الأوبئة، عن توحش الاستعمار، وعن تدمير الأوطان.كتاباتنا لم تتمثل حلقات الحداثة فاختزلتها في الثالوث المحرم ،المتجاوز أوروبيا. لذا يبدو الحداثيون ظلالا باهتة. إنّ من يقفز من المسجد والوليّ الصالح، من المولد النبوي والحناء والزغاريد والبارود، إلى "لينين" و«بريجيت باردو" لا يعوّل عليه في الإقناع والتغيير. المجتمع الأسطوري وجب التعامل معه بعقلانية، وليس بتدمير متكآته، دون بدائل عارفة.
أمّا المتلقي الذي يواجه نصوصا غير أخلاقية، وضعيفة فنيا ، فيفضل قراءة روايات" هنري ميللر" لأنها أصيلة، بقوتها السردية والتصويرية والفلسفية وأفكارها المفارقة التي لا نعثر عليها في محاكاتنا التي تكرس رؤى تخلى عنها الغرب نفسه، كما قلل من نقد الكنيسة بطرائق فظة انقلبت عليه لأنها لم تعد وظيفية في مجتمعات بدأت تعود إلى الدين بسبب مآزقها، ومنها تراجع الحضور الفني في حد ذاته. لقد استعان الروائي باولو كويلو بالتصوف الإسلامي في الكيميائي بعد أن مرّ بأزمة روحية قادته إلى المصحة العقلية .
الآداب العظيمة اهتمّت بنفسها، وبأسئلة وجودية عميقة،كما فعل عمر الخيام في رباعياته، و«كازانتزاكيس" في زوربا الإغريقي ، وليس بالكتابة التي تُسفسف العقل والروح بالتركيز على موضوعات ليست سوى اعتلالات نفسية تدلّ على اختلال الشخصية، ولا مبرر لوجودها في سياقات تجاوزتها إلى آفاق فكرية تطرح أسئلة جادة تهمّ الإنسان.
على أدبنا العربي أن يعمل على الخروج من معطف الآخر احتراما للقارئ الذي أصبح أكثر وعيا من الكاتب. ، هؤلاء الكتّاب المتشبثون بتلابيب الغرب يكرّسون تبعية إفريقيا والوطن العربي، وهم ليسوا مؤهلين ليلعبوا دور النخب المسؤولة لأنهم يلحقون ضررا بأوطانهم بتمثيلها أسوأ تمثيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.