لم يستشهد بن بلة في جهاده ضد المستعمر بين الجبال والوديان ولم يمت حينما إختطفت القواة الإستعمارية الفرنسية الطائرة التي تقله رفقة زعماء جبهة التحرير حولت مسار توجهها ولم يمت أيضا بقصره الرئاسي عند الإنقلاب العسكري عليه سنة 1965 أو ما إصطلح على تسميته آنذاك بالتصحيح الثوري ولا حتى في إقامته الجبرية لسنوات عديدة ولم تنقل روحه إلى بارءها وهو في منفاه الإختياري بأوروبا بعد ذلك بل مات بن بلة حين وفاه أجله عايش وعاصر كل الأجيال الجزائرية فجر الثورة وسير الثروة (ولو لفترة قصير) بن بلة لم يكن رئيسا وكفى بل كان زعيما حتى قبل توليه منصب إدارة شؤون البلاد .بن بلة أريد له أن يكون شاهدا عن العصر بكتابه المفتوح الذي سيظل يحاكي الأجيال المتعاقبة عن جزائر الثورات والمعجزات إن المتتبع لمسيرة الرجل المعروف بتواضعه ووطنيته ومحبة الناس له وإحترامهم لمسيرته النضالية يدرك بأنه لم يتغير كما تغير الكثيرون من رفقاء دربه ولم تستهويه السلطة ولم تغويه المعارضة بينما كان المهرولون إلى العواصم الأوروبية يستعطفون ساستها ويزايدون في ما بينهم للمتاجرة بمعارضة النظام القائم آنذاك والتربح من ربيع السب والشتائم بالإقامة في الفنادق الفاخرة وكسب مزيد من الأموال وبالعملة الصعبة بن بلة الرمز النادر والتاريخ ومهما قيل عن حياته ومواقفه عن خلافاته وتوجهاته إلا أنه ولد ليعشق الجزائر ومات وقلبه ينبض بحبها رفض كل الإغراءات للخوض في الإختلافات والإختلالات والمؤامرات التي تعرض لها طيلة حياته وكانت إجابته دائما هي التطلع إلى المستقبل برزع الأمل في صفوف الأجيال الحالية بن بلة الذي سمعت عنه وأنا المولود بعد الإطاحة به بأشهر قليلة وقرأت عنه في ما بعد أستحضر في هذه اللحظات مواقف وقعت لي مع شخصية هذا الرجل العظيم في مطلع الثمانينيات بالقرن الماضي بينما كنت شابا يانعا وفي الصيف وبينما كنت أتجول بإحدى مكتبات باريس وقع بصري على كتاب لازلت أتذكره عنوانه »بن بلة يعود« (BEN BELLA ... REVIENT) وأدمنت على قراءة أجزاء منه حتى أن صاحبة المكتبة أهدته لي ظنا منها بأنني لا أملك ثمنه ولكن السبب كان خوفي من أن أحمله معي إلى الجزائر وتحصل لي مشكلة أمنية بسببه لمنعه في بلادنا أما الثانية فكانت حينما زرت العراق بعد حرب الخليج الثانية مطلع التسعينيات وتفاجأت بحجم الحب والتقدير الذي يكنه العراقيون قيادة وشعبا لأحمد بن بلة ليس كرئيس سابق للجزائر ولا كمناضل ومجاهد ولكن لأنه رمز للعروبة من المحيط إلى الخليج وقد عرفت من بعض مثقفيهم ونخبهم الكثير عن شخصيته التي كنت أجهلها وفي بغدا حينما وقفت على هول الدمار الذي خلفه العدوان الأمريكي الصليبي على العراق وزرت ملجأ العامرية الشهير بعد مقتل الآلاف من العراقيين فيه أثناء الحرب تفاجأت بكوفية (شال) الرئيس أحمد بن بلة يحيى معلقة على صورة إحدى الشهيدات وقرأت كلماته وتوقيعه على دفتر وضعته أمها للزوار وعلمت أنه مكث هناك لأشهر يساند صدام والعراق كبر بن بلة في عيني ولعنت كتب التاريخ عندنا ومناهج وزارة التربية أنذاك التي لم تعط لمن صنعوا تاريخ الوطن حقهم لتعريف النشء بأعمالهم وبطولاتهم وإرتقى في نظري كذلك حينما طلق الحركة الديمقراطية الجزائرية MDA التي أسسها بعد خروجه من الإقامة الجبرية للتعبير عن أفكاره وتطلعاته وسرعان ما حلها حينما تحولت المعارضة إلى تهريج يسيء إلى صمعة البلاد فإختيار الجزائر وطلق التحزب وبعد ظهور الفضائيات ورغم الدعوات والإغراءات والحوارات الساخنة إلا أنه كان ملتزما دائما بعدم النبش في الماضي وكان يرى بأن رسالته هي لأجيال الجزائر وعليه أن يتطلع معهم إلى غد أفضل . بن بلة أفنى حياته في النضال وجرب السجن والإقامة الجبرية مارس المعارضة والمصالحة وصافح الجميع بقلب متسامح رجل لم تهزه الضربات الموجعة من أخلائه ولم يتوقف قلبه عن النبض رغم الهزات الإرتدادية المتتالية في حياته وحينما جاء الأجل مات بن بلة في العاصمة مرفوعا على الأكتاف كما دخلها قبل نصف قرن في وسط زغاريد وأفراح لم يمت بن بلة ولن يموت لأنه خالد بيننا بخصاله وأعماله وأيضا بمواقفه.