رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    محروقات : سوناطراك توقع مذكرة تعاون مع الشركة العمانية أوكيو للاستكشاف والانتاج    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فيلم "بنك الأهداف" يفتتح العروض السينمائية لبرنامج "تحيا فلسطين"    ورقلة /شهر التراث : إبراز أهمية تثمين التراث المعماري لكل من القصر العتيق ومدينة سدراتة الأثرية    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    الشمول المالي: الجزائر حققت "نتائج مشجعة" في مجال الخدمات المالية والتغطية البنكية    "الأمير عبد القادر...العالم العارف" موضوع ملتقى وطني    وزير النقل يؤكد على وجود برنامج شامل لعصرنة وتطوير شبكات السكك الحديدية    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    رابطة قسنطينة: «لوناب» و «الصاص» بنفس الريتم    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    قراءة حداثية للقرآن وتكييف زماني للتفاسير: هكذا وظفت جمعية العلماء التعليم المسجدي لتهذيب المجتمع    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    بطولة وطنية لنصف الماراطون    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    تمرين تكتيكي بالرمايات الحقيقية.. احترافية ودقة عالية    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    عائلة زروال بسدراتة تطالب بالتحقيق ومحاسبة المتسبب    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    إنجاز ملجأ لخياطة وتركيب شباك الصيادين    ارتفاع رأسمال بورصة الجزائر إلى حدود 4 مليار دولار    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حرا¤ة" يرحّلون إلى الجزائر وتنتهي أحلامهم في السّجون
نشر في الأمة العربية يوم 27 - 06 - 2009

"الأمّة العربية" تروي تفاصيل رحلة الموت من سردينيا إلى العاصمة
* مطار الجزائر.. المحطة الأخيرة ل "الحراڤة" المرحّلين
مطار الجزائر الدولي حسب ما وقفت عليه "الأمّة العربية" يستقبل في كل رحلة قادمة من روما أو دول أوروبا الأخرى في اليوم، ما بين 7 إلى 11 من "الحراڤة"، يعادون إلى الوطن بعد إلقاء القبض عليهم لتتسلّمهم شرطة المطار، ثم يرسلون إلى محكمة الحراش بالعاصمة، مثلهم مثل المجرمين، لينظر في مصيرهم قاضي التحقيق. وكان على "البرلمان الموقّر" حسب الكثير من المختصين بدل أن يجرم الشباب الجزائري بسبب هجرتهم غير الشرعية نحو المجهول،أن يسن أيضا قانونا لرعاية هؤلاء الشباب نفسيا قبل اتهامهم وتحويلهم إلى المحاكم للتحقيق.
الصدفة وحدها سمحت لنا بمقابلة "حراڤة" مرحّلين، والذين كانوا مرفوقين بأفراد من الشرطة. وللأمانة، لم تكن معاملة الشرطة فضة ولا قاسية، ولم توضع في أيديهم الأغلال. والأكثر من هذا، لم تكن تخلو كلمات الشرطة من الدعابات، ما أدخل الطمأنينة في نفوس الشباب، وأشاع بينهم جوا من الفرح الذي تخفيه بعض علامات الخوف البادية على وجوههم.
"الحراڤة" المرحّلون، كان اثنان منهم من سكيكدة وواحد من دواودة ببومرداس، وثلاثة من الرغاية، وآخر كان أكبرهم يبدو في عقده الثالث، لم يبال بنا أو يعطينا أي معلومات تخصّه، ولم يكن يبدو عليه الخوف أو القلق، فقط وحده الحزن كان جاثما على صدره، لدرجة أنه لم يعر أي اهتمام لما حوله.
حكاية هؤلاء ليست مغامرة موت فقط، بل حين سماعها تجعل الذي بقلبه مشاعر إنسانية يبكي بدل الدمع دما قانيا، على الشباب الجزائري الذين صار مجرد رقم سالب يستدعى في الانتخابات على طريقة "شاهد ماشفش حاجة"، في وطن يئن تحت وطأة الأنانية والعبث ومجرد سلعة تتاجر بها الأحزاب والتنظيمات، ليصل اليوم إلى حائط اليأس الذي تساوى فيه الموت والحياة عندهم، فما عاد الفرق يهم سوى في بعض التفاصيل.
* رحلة الموت تبدأ من هنا
حسب ما أطلعنا به شاب مرحّل من شرق العاصمة لم يشأ أن يذكر لنا اسمه لكنه أصر على سرد الحكاية من بدايتها إلى نهايتها، نيابة عن زملائه. وللتذكير، أغلب المرحّلين خلال هذا اليوم لم يسافروا إلى سردينيا في إيطاليا في يوم واحد، وإنما الحكاية هنا تخص شبابا من شرق العاصمة سافروا معا، لتنسج بينهم وبين زملائهم من مختلف الولايات صداقة وتواصل خلال وجودهم في مركز للاجئين بكالياري.
بدأت رحلتهم في 19 ماي من شاطئ سيدي سالم التابع لولاية عنابة، بعد منتصف الليل، حيث انطلقت ثمانية قوارب، على متن كل واحد منها ما يقارب الثلاثين شابا من مختلف مناطق الوطن. دامت الرحلة حسب محدثنا الذي تخطى بعض السنوات من عقده الثاني 24 ساعة، بمعنى أن وصولهم كان في اليوم التالي بعد منتصف الليل. لكن كيف كانت الرحلة في عرض البحر قبل الوصول؟ سؤالنا هذا جعل محدثنا يطرق صامتا وكأنه يسترجع شيئا ما، ثم واصل حديثه "كان من المفروض أن نصل في أقل من هذا الوقت.. ولأن القارب كان محمّلا بأكثر من طاقته، فقد كان الإبحار بطيئا، رغم قوة المحرك المستعمل من نوع "سوزوكي"، حتى وإن كانت الرحلة هادئة خلال هذا اليوم، إلا أن المياه كانت تدخل إلى القارب في كل مرة، خاصة حينما يتمايل يمينا وشمالا من ثقله، فالأمواج البسيطة كانت تؤثر على توازنه، وهذا ما جعل الماء يتسرب إلى الداخل، ليصل إلى منتصف سيقاننا. وبما أن أغلبنا لم يبحر من قبل، فقد انتابتنا حالة من الرعب، فصور وحكايات المفقودين تأتيك في هذه اللحظات لترسم لك نهايتك المرتقبة في أية لحظة، وفي كل مرة كان قائد القارب يحاول تهدئتنا ويطلب منا الثبات وعدم التحرك لحفظ توازن القارب لكي لا ينقلب، واضطررنا بعدها للتخلص من بعض الأشياء الثقيلة مثل الأطعمة وبعض الأشياء من أجل التخفيف من وزن القارب. ورغم ذلك، بقيت الأمور على حالها وبقينا نشق عباب البحر بنفس السرعة، إن لم تكن أقل. وبعدها، كان علينا أن ننظم أنفسنا ونقوم بتفريغ القارب من الماء بأيدينا، وكنا نفعل ذلك بهدوء حتى لا يتحرك القارب أو ينقلب بنا، وبقينا نفعل ذلك طيلة ما بقي لنا من الطريق".
ويحكي لنا الشاب أنه من شدة التعب، لم يعد يشعر بكتفيه، خاصة مع اشتداد موجة البرد التي قال لنا عنها إنها كادت تتسبب في وفاة طفل في الرابعة عشر من عمره، اختار "الحرڤة" نحو إيطاليا إلى أشقائه الثلاثة الموجودين هناك "حيث اضطررت يقول الشاب لأن أحمي يديه الصغيرتين بفركهما بيدي والنفخ فيهما باستمرار، فقد كان صغيرا جدا ويرتعش من البرد، ولم نسمح له بمساعدتنا في تفريغ القارب لصغر سنه، كل ما كنا نفعله أن ندفئه بالنفخ في يده كلما أراد أحدنا أن يرتاح من تفريغ الماء".
* الطريق نحو الفردوس.. ينتهي بكابوس
بعد رحلة دامت 24 ساعة يواصل محدثنا وصلنا إلى سردينيا ليلا واخترنا شاطئا صخريا لنرسو عليه، يقول الشاب عن نفسه، أنه لم يستطع السير حين نزوله من القارب لولا صديقه الذي اختار "الحرڤة" معه، الذي كان يسنده ولم يستطع الجميع الحراك، فأشعلوا نارا في الغابة وتحلقوا حوّلها وكان الكل مهتما بالصّبي، وهناك تناولوا ما بقي لهم من أكل ثم افترقوا كل إلى جهة مجهولة بعد نيل بعض الراحة. ليشق هو وصديقيه من العاصمة، وشاب آخر تعرفوا عليه خلال الرحلة، أخبرهم أنها ثالث مرة يقوم بها بهجرة سرية ولم ينجح، وأنه يعرف الطريق، فتبعوه يشقون الصخور والأشجار في ليل بهيم. وحين سألناه عن مصير الطفل، قال محدثنا إنه اتجه مع جماعة إلى وجهة غير وجهتهم. قبل بزوغ أول خيط للفجر، عثروا على بيت خشبي في الغابة، طرقوا الباب، فلم يجدوا به أحدا. دخلوه، ولما وجدوه شاغرا استلقوا نائمين من التعب والجوع، ومنهم من قام بنشر ملابسه على الأبواب بعدما ابتلت من مياه البحر.
وواصل "الحراڤ" قائلا: ولم نستيقظ سوى على دخول صاحب البيت، الذي اندهش لرؤيتنا، لكنه لم يرتبك ولم يحاول إيذاءنا، بل أشار إلينا بيده إلى أن نهدأ، ربما رق للحال الذي كنا عليه، فقد كنا ننام مثل القتلى، كل واحد في مكان، نتوسد بعضنا البعض، قدم لنا بعض الأكل وتكلم معنا بهدوء، لكننا لم نفهم منه شيئا، ولا هو فهم منا شيئا، بما أننا لا نتقن اللغة الإيطالية. وبعدما ارتحنا، قررنا مواصلة المسير نحو الميناء قصد السفر نحو العاصمة روما، على متن زوارق، خاصّة وأن سردينيا جزيرة والمسافة بينها وبين باقي أجزاء التراب الإيطالي بعيدة. وكان خوفنا أن يقبض علينا، خاصة وأن الإجراءات الأمنية في سردينيا مشددة جدا، بسبب الأمواج البشرية من المهاجرين التي تصلها يوميا. وحدث ما كنا نخشاه، حين اصطدمنا بدورية للدرك الإيطالي، في الغابة قبل حتى أن نخرج إلى أي قرية أو مدينة. كان باستطاعتي الفرار، لأني كنت بعيدا عن زملائي في الخلف من شدة التعب، ولكني لم أنتبه إلا حينما اقتربت، ولما هممت بالتراجع كان الوقت قد فات حين رآني أحدهم ونال مني التعب، فما عاد الهروب يجدي. لما أخذونا إلى مركزهم، أول ما لاحظته أمام المركز هو محركات القوارب المركونة جنب الحائط، حتى أني لم أستطع عدها لكثرتها، وعلمت حينها أنها محركات لقوارب تركت على الشاطئ. حاولنا إقناعهم بأننا مسالمون، ولكن لا هم فهموا منا شيئا ولا نحن فهمنا، لكن رأيت الزميل الذي معنا يبتسم حين رأى قائدهم يخرج من درجه بطاقات معينة، سألته عنها، فقال مثل هذه البطاقات تسلم لنا للانتقال بحرية لمدة 24 ساعة فقط، ويمكننا من خلالها الوصول بها إلى روما اليوم. شعرنا بسعادة غامرة، لولا أن أفواجا من المقبوض عليهم بدأت تصل المركز، فوضع الضابط يده على رأسه حيرة وأعاد البطاقات إلى درجه، فعلمنا أن الأمر كله انتهى، أو أن الأمل تضاءل في إطلاق سراحنا.
* "نحن فلسطينيون".. كلمة سر للمرور إلى مراكز اللاجئين
لتبدأ رحلة جديدة نحو مركز اللاجئين بكالياري، لأكتشف كما أضاف المتحدث ل "الأمّة العربية" وجوها كانت معي، وعلمت حينها أن الكثيرين تم إيقافهم. وسمعت إشاعات لم أتأكد منها لحد الآن، تفيد بأن ثلاثة قوارب وصلت من الثمانية التي انطلقت، وسمعت أن أربعة تم توقيفها ساعات بعد انطلاقها من طرف حراس السواحل في الجزائر، وقاربا واحدا اختفى في عرض البحر، ولكني لست متأكدا، ذلك ما سمعته من بين المقبوض عليهم.
أول شيء قاموا به معنا، هو إجراء كشف طبي كامل، وكذا قيام طبيب نفسي بالتحدث معنا برفقة مترجم باللغة الفرنسية. وعن شعورهم وهم في هذا المركز، أجاب أحدهم أنه لحد تلك اللحظات كان عندهم أمل بأن يخلى سبيلهم، خاصة بعدما أنكروا جنسيتهم وغيّروا أسماءهم وقالوا إنهم فلسطينيون.
وحسب هؤلاء "الحراڤة"، فإنهم تعرّفوا هناك على شباب من سطيف والبويرة والعاصمة، وبومرداس من عنابة، الطارف ووهران، ومناطق عديدة من الوطن، حتى من الجنوب، ونسجت بينهم علاقات صداقة. أما حكاياتهم، فكلها تتشابه، الظروف الاجتماعية، غياب الكرامة، الهروب إلى عالم آخر، بعيد عن واقع لا يتغيّر... واصل الشاب حديثه: وبعد خمسة أيام، نقلونا عبر الطائرة إلى مركز بروما، لم نلبث فيه سوى ثلاثة أيام، ليتم تحويلنا جوا إلى مدينة باري، لنوضع في أحد مراكزها المحاط بالأسلاك الشائكة والحراسة المشددة، وتمت معنا ممارسة نفس الإجراءات تقريبا، فحص طبي وتوزيع بعض الملابس وأدوات النظافة، مثل فرشات الأسنان والأغطية والغسول والصابون والعطور وأدوات الحلاقة، وأخذوا معلومات عنا من خلال أخذ بصماتنا وتصويرنا، وأخذوا أيضا أسماءنا، رغم علمهم أننا نكذب عليهم، فيما يخص جنسياتنا وأسماءنا، وكانت تلك الطريقة الوحيدة التي كنا نعتقد أنها ستخلصنا من الترحيل.
وعن حياتهم داخل الملجأ، فقال إنها كانت مقبولة لحد ما، فقد كنا نلعب كرة القدم في المساء ونمر على الطبيب باستمرار، لكن كانت هناك صرامة في الحراسة خشية أن نفر، فقد كان الصعود إلى سطح المبنى يعرض الشخص للضرب. ولم ينف محدثنا بعض المناوشات بين "الحراڤة" وحراس المركز، الذين كانت تبدو عليهم العنصرية، وكان بعضهم يشتمنا من خلال ما يترجمه لنا بعض "الحراڤة" الذين يعرفون اللغة الإيطالية، وكنا نرد عليهم بالمثل، بينما كان البعض الآخر من الجنود يعاملوننا بطريقة ودية، وبعضهم عقد معنا صداقة لا نعرف إن كان ذلك كسبا لودنا من أجل الكشف عن هويتنا، أو لفتة إنسانية منهم.. وفي كل يوم يرحّل خمسة أو عشرة جزائريين إلى الجزائر بعد التحقيق معهم، ليأتي عشرون آخرون جدد محلهم في دورة لا تنتهي. وقبل أن نعرض على القنصل، فقد عرضونا على قاضي التحقيق، الذي سألنا من خلال مترجم عن سر دخولنا الأراضي الإيطالية بطريقة غير شرعية، وأعلمونا من خلال مترجم دائما أنهم وكلوا لنا محاميا وكنت أعلم أن هذا المحامي لن يقوم بشيء. كانت محامية هي المكلفة بقضيتي وقضية بعض منا، حين قابلتني اصطدمت معها في الرأي، خاصة وأني اكتشفت من خلال المترجمة أن لا نية حقيقية لها في الدفاع عني، لأنها كانت تريد أن تتخلص من القضية بسرعة، فرفضت أن تدافع عني، وهكذا فعل أصدقائي، لكننا كنا نعلم أن الوضع لن يتغير. وبعد أيام، ولا نعرف كيف، علموا بأننا جزائريون، ربما هناك وشاة يعملون معهم ولا ندري. جاءنا القنصل وكلمنا واحدا تلوى الآخر. حين وصل دوري، طلبت منه أن لا أرجع إلى البلاد، وشرحت له حالتي والظروف التي أعيشها وأني لست صاحب مشاكل وسجل في أحد الأوراق بأني فلسطيني ورأيت ذلك بأم عيني، ولكن كنا نعرف أن القنصل رغم طمأنته لنا سيوافق على ترحيلنا، عكس المغاربة والتونسيين وباقي الجنسيات الأخرى، التي لا تتدخل سفارات بلدانهم في ترحيلهم، وهنا يحق لي أن أطرح سؤالا يقول محدثنا "إن كان المسؤولون في الجزائر لا يوفرون لنا لا منصب عمل، ولا حتى يحفظون لنا كرامة أو حتى يحاولون إيجاد حلول لنا، فلماذا يريدوننا أن نرجع إلى الوطن، ما الذي يريدونه منا بالضّبط؟".
كانت عبارته قاسية وهو يتساءل، ليرد زميله باكيا: "علاش ما يخلوناش نروحو، ياك حتى الطيور وترحل إن لم تجد القوت"، ولا أستطيع أن أصف المشهد هنا سوى بالحزين، هذا أقل وصف يمكن أن أقوله وأنا استمع لهذه العبارات، وأردت أن أكسر الروتين وهذا الجو الثقيل بالحزن، فقلت لهم هل سمعتم عن فوز الفريق الوطني على مصر؟
فابتسم جميعهم واختلطت الكلمات بينهم، حتى اخترت واحدا منهم ليواصل الحديث، قال لي: لقد ملأنا المركز بالرقص والتطبيل حين انتصرت الجزائر،جعلناه عرسا حقيقيا، هنا أدركت كم يتمسك الشباب "الحراڤة" بوطنهم رغم كل شيء.
* الضّرب لكل من يحاول الفرار
وسألتهم ماذا حدث بعد زيارة القنصل لكم، واصل أحدهم: علمنا أن النهاية قريبة وأن ترحيلنا مسألة وقت فقط. سألته: ألم تفكروا في الهرب؟ رد علي: طبعا فكرنا، لكن الأمر لم يكن بالأمر السهل، بل كان مستحيلا في ظل الحراسة الشديدة، وأود أن أشير إلى أن ثلاثة من الشباب لحد الآن لا أعرف جنسيتهم حاولوا الهرب، نالوا من الضرب ما لم يكن أحد يتصوره، لكمات على الوجه.. ركلات على البطن، وأحدهم كسرت ساقه ولم نعرف عنهم شيئا بعدها، ليرد عليه زميله "أخذوهم إلى المستشفى للعلاج".
ويواصل الأول حديثه: رغم أننا كنا كل يوم ننهض على رحيل جماعة من أصدقائنا، كان لنا أمل بأنهم سيطلقون سراحنا، فلم نقطع كل هذا البحر ونخاطر بحياتنا لنعاد إلى البلاد، ولكنه أمل ضعيف. كنا نتصل بأمهاتنا وآبائنا ليدعوا لنا. وعن استفساري في كيفية الاتصال بذويهم، أخبرني واحد من المرحّلين أنه كانت تقدم لهم بطاقات مجانية كل أسبوع للاتصال بذويهم. وأردف قائلا: بعد مرور 22 يوما من وصولي إلى إيطاليا، قمت فجرا لأصلي، فإذا بأحدهم يطلب مني أن أغسل وجهي وتحضير نفسي، ووجه الكلام نفسه للثلاثة الذين كانوا معي في الغرفة، حينها عرفت أننا سنرحل اليوم، ولك أن تتصور الخيبة التي منيت بها، ولم يبق سوى معجزة تمنعني من الرحيل، ولكن لم تحدث المعجزة وحملنا متاعنا وخرجنا من المركز مقيدي اليدين نحو مطار روما وانتظرنا ساعتين في إحدى الغرف بالمطار. وأثناء اقتيادنا نحو الطائرة، نظر إلينا أحد أفراد الشرطة ومن ملامح وجهه وكلماته، استنتجنا أنه يشتمنا، فلم أحتمل منه الإهانة وحدثت بيننا مناوشة ورفضت السير، وكذلك أصدقائي، إلى أن جاء أحد الضباط، وأعتقد أن واحدا من الشرطة شرح له ما حدث، فنزل بالصراخ على الشرطي وأمره بالابتعاد عنا فهمنا ذلك من خلال إشارة يده ثم توجه إلينا وبدأ يلاطفنا ويتودد إلينا، وكأنه يعتذر، حينها قررنا أن نمضي نحو الطائرة رفقة أربعة من أفراد الشرطة الإيطالية، وبينهم امرأة باللباس المدني، لم نتحدث إليهم ولا هم تحدثوا إلينا، إلى غاية وصولنا إلى مطار الجزائر الدولي، ابتسموا لنا وصافحونا وسلمونا للشرطة، كما ترى الآن.. لم أكن أفكر طوال الرحلة سوى في الطريقة التي سأمضي بها حياتي دون عمل أو أمل، وكيف أحصل على مال لأعيد الكرّة مرة أخرى. وحين لاحظ دهشتي، أكد لي أنه سيعيد الكرّة، والأمر كان نفسه بالنسبة لزملائه، لما قلت لهم "ليس في كل مرة تسلم الجرة"، هز أحدهم كتفيه كأنه لا يبالي.
* رغم أنهم فقدوا فيها كل شيء.. لازالت الجزائر في القلب
سألتهم: هل تكرهون بلدكم؟ صمتوا كلهم كأنهم لم ينتظروا مثل هذا السؤال، أو ربما لم يفكروا في مسألة حب الوطن، لأنه شيء ثابت، سرعان ما تحرر لسان أحدهم حين رد علي: لا أكذب عليك، لا أحبها ولا أكرهها، لست سوى لاجئ فيها، وهنا أوقفه زميل له وهو يضحك، ولكنك كدت تفقد صوابك من الفرح حين سجلت الجزائر الهدف الأول ضد مصر. أما زميل آخر، فكان أكثر وطنية حين قال لي إنها أرضي وإن حاولت الرحيل، فليس لأني أكرهها، بل لأن الكثير من يدّعون حب الوطن، كانوا سببا في بحثنا عن الرحيل. إنها الأرض التي سال فيها دم جدي الشهيد ولن أسمح فيها أبدا. وواصل كلامه في شكل عتاب موجه إلى شخصي: "أرجو أن يوجه هذا السؤال للذين سنوا قوانين تجرّمنا".
* استفسار.. أرجو أن يرد عليه كل مسؤول يتفرّج على المأساة
وقبل أن أختم لقائي هذا الذي صنعته صدفة انتظار صديق في مطار، فوجدتني في استقبال "حراڤة"، سألتهم: هل من كلمة توجهونها للمسؤولين؟
اختلفت إجاباتهم، لكن شدني جواب أصغرهم، لم يكن جوابا، بل سؤال حين قال: أنا شخصيا لا أنتظر منهم شيئا ولا أثق فيهم أبدا، لكن لي استفسارات أتمنى أن أجد لها يوما جوابا شافيا: "هل يبكي هؤلاء المسؤولون؟ هل لهم دموع في محاجر العيون؟ هل لهم قلوب تحس وتعقل؟ هل يحسون بنا حين يروا مأساتنا؟ وأخيرا، ماذا لو انقلبت الدنيا وعاد نواب البرلمان إلى أصولهم وصار لهم بيوت من صفيح وأصبح أولادهم "حراڤة"؟ هل سيوافقون على سجنهم؟
وقبل أن يغادروا، غمزني أحدهم قائلا: انقل الأسئلة إلى النواب ولا يهم إن كانت شفوية أو كتابية، وانفجر الجميع ضاحكين.. كانت ضحكة ألم أكثر منها ضحكة عبث، في انتظار عرضهم على قاضي التحقيق لمحكمة الحراش بالعاصمة ليبتّ في مصيرهم بعد مبيتهم ليلة أو ليلتين في "السيلون" مع اللصوص والقتلة. وبدوري، أتمنى أن أرى الأجوبة قريبا.. قريبا جدا.
وفي الأخير، اكتشفت شيئا مهما في هؤلاء الشباب، هو حكمتهم البالغة وطريقة كلامهم، وفهمهم للأمور كيف تجري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.