(1) أنَّ الله تعالى أقسم بها فقال: {وَلَيال عَشْر } ولا يقسم الله تعالى إلا بعظيم ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به فالقَسَم بها يدلُّ على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله تعالى لها. (2) أن الله تعالى سماها الأيام المعلومات فقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات } [الحج:28] نقل البخاري في صحيحه عن ابن عباس قوله في هذه الأيام أنها: أَيَّامُ العَشْرِ. (3) أنَّ الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات والقرين بالمقارَن يقتدي فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر: فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت وتعود الأنوار بعد الظُّلْمَة والحركة بعد السكون والقوَّة بعد الضعف وتجتمع فيه الملائكة وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثُّلُث الأخير من الليل وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقرنها بالشفع والوتر: لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات فما من مخلوق إلا وهو شفعٌ أو وترٌ وحتى العَشْر فيها شفعٌ وهو النحر وفيها وترٌ وهو يوم عرفة. وقرنها بالليل لفضله فقد قُدِّم على النهار وذُكِرَ في القرآن أكثر من النهار إذ ذُكِرَ اثنتين وسبعين مرَّة والنهار سبعًا وخمسين مرَّة وهو أفضل وقت لنَفْل الصَّلاة وهو أقرب إلى الإخلاص لأنه زمن خُلْوَة وانفراد وهو أقرب إلى مراقبة الله سبحانه وتعالى إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله وهو أقرب إلى إجابة الدُّعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب إذ يقول الله تعالى في آخِره: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) وقال بعض السلف: (لولا الليل ما أحببتُ العَيْش أبدًا). (4) أنَّ الله تعالى أكمل فيها الدِّين إذ تجتمع فيها العبادات كلِّها وبكمال الدِّين يَكْمُل أهله ويَكْمُل عمله ويَكْمُل أجره ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات والتلذُّذ بالطَّاعات وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال قال حَبْرٌ من أحبار اليهود لعمر: آيةٌ في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود اتَّخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3]. قال عمر: (إني أعلم متى نزلت وأين نزلت نزلت يوم عرفة في يوم جمعة). وكمال الدِّين يدلُّ على كمال الأمَّة وخيريَّتها. (5) أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها فهي أيام الكمال ففيها الصلوات كما في غيرها وفيها الصَّدقة لمَنْ حال عليه الحَوْل فيها وفيها الصوم لمَنْ أراد التطوع أو لم يجد الهَدْي وفيها الحجُّ إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها وفيها الذِّكْر والتَّلْبية التي تدلُّ على التوحيد وفيها الدعاء واجتماع العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيه فيه غيرها ولا يساويها سواها. (6) أنها أفضل أيام الدُّنيا على الإطلاق دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها فهي أحبُّ الأيام إلى الله تعالى والعمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله فهي موسم للرِّبح وهي طريق للنَّجاة وهي ميدانُ السَّبْق إلى الخيرات لقوله (أفضل أيام الدنيا أيام العشر) [وقال أيضًا: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)] وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس وأفضل من الجهاد بالمال وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما لأنه لا يَفْضُل العمل فيها إلا مَنْ خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال. وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: (كان يُقال في أيام العَشْر: بكل يوم ألف يوم ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم) أي: في الفضل. وروي عن الأوزاعي قال: (بلغني أنَّ العمل في يوم من أيام العَشْر كقدر غزوة في سبيل الله يُصام نهارها ويُحرَس ليلها إلاَّ أنْ يختصَّ امرؤٌ بالشَّهادة). (7) فيها يوم التروية: وهو اليوم الثامن من ذي الحجة سُمى به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده أي يستقون ويسقون. (8) فيها يوم عرفة وهو اليوم التاسع من ذي الحجَّة وهو يومٌ معروفٌ بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب فهو يومٌ مجيدٌ يعرف أهله بالتوحيد إذ يقولون: لا إله إلا الله وقد قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)] ويعرف الإنسان ضعف نفسه إذ يُكْثِر من الدُّعاء ويلحُّ على الله في الدُّعاء ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كلِّ مكان في صعيد واحد ويعرف عدوَّه الذي ما رُئِيَ أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة ويعرف كثرة مغفرة الله لعباده في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه (لغير الحاجِّ). وهو يوم الحجِّ الأعظم الذي قال عنه: (الحج عرفة) وصومه تطوُّعًا يكفِّر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبِلة وما علمتُ هذا الفضل لغيره فكأنه حفظ للماضي والمستقبل. (9) فيها يوم النَّحر وهو اليوم العاشر من ذي الحجَّة وهو أفضل الأيام وفيه معظم أعمال النُّسُك: من رمي الجمرة وحَلْق الرَّأس وذبح الهَدْي والطَّواف والسَّعي وصلاة العيد وذبح الأُضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضًا. ففضائل العَشْر كثيرةٌ لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها بل ينبغي أن يغتنمها وأن يسابِق إلى الخيرات فيها وأن يشغلها بالعمل الصَّالح.