رحل ليلة أول أمس، عمي الطاهر بن عائشة، وكان رحيله فاجعة لنا نحن الأسرة الإعلامية، تماما مثلما كان عجزه وفقدانه الذاكرة في أيام مرضه الأخيرة، خسارة لأهل الثقافة والإعلام، لأننا لم ننهل من هذا المعين، ولم نستغل هذ الكنز الذي يمثله عمي الطاهر، الذاكرة الحية والتجربة الإعلامية غير المسبوقة. زارني عمي الطاهر منذ قرابة الثلاث سنوات في مكتبي، تحدثنا كثيرا، تحدثنا عن تجربته الإعلامية وعن تحقيقاته الثقافية التي جاب من أجلها أصقاع الأرض، وكان يبثها التلفزيون الجزائري تحت عنوان ”حراس التراث” وما زال برنامجه هذا أحد أهم البرامج الثقافية، بل أهمها على الإطلاق، من حيث المعلومات والأفكار والمهنية، واللغة السلسلة التي كان يتمتع بها الرجل. وعدني عمي الطاهر بأنه سيعود في زيارة أخرى، وأن يكتب مساهمات في ”الفجر”، تروي تجربته الثرية والنادرة في الإعلام الثقافي، تجربة حياة جهاد وكفاح في مهنة المتاعب، التي كانت بالنسبة إليه عشقا ومتعة واستكشافا لثقافات البلدان العربية والإسلامية. لكن المرض حرمنا من متعة الجلوس إلى هذه الموسوعة الثقافية والفكرية، ليرحل أمس، بعد عمر غني بالتجارب وبالنضال. رحل الشيوعي الأخضر، مثلما كان يطلق عليه أصدقاؤه ومحبوه، إذ كان رجل نكتة، وروح خفيفة، يأسرك حديثه الشيق، وكتاباته الغنية بتجاربه الشخصية، التي تماهت مع تجارب شعوب البلدان التي زارها ونقل إلينا صورا رائعة عنها، أيام التلفزيون والحزب الواحد، ومع ذلك كان العمل الذي قام به الرجل عظيما وغير مسبوق، في زمن إعلام الفضائحيات، ولا أقول الفضائيات! لا أدري إن كانت الحادثة تليق بروايتها اليوم، والرجل يقف بين يدي ربه، لكنه في حياته كان يرويها كنكتة مضحكة. كان ذلك زمن السبعينيات، وكان بومدين رئيسا، دخل عمي الطاهر مقهى اللوتس بساحة أودان بالعاصمة، المقهى الذي كان ملتقى للمثقفين خاصة اليساريين، جزائريين وأجانب، وصحفيين، وقتها كانت الجزائرمكة الثوار من كل بلدان العالم، دخل المقهى - قلت - وطلب من القهواجي: ”أعطيني وحدة نورمال؟!” وكان القهواجي جديدا في الخدمة، لم يكن يعرف المصطلحات، ولا يعرف عمي الطاهر، فرد عليه بسؤال: ”نورمال واش (ماذا)؟”. فرد عمي الطاهر ”كاين شي نورمال في هذه البلاد غير البيرة (الجعة)؟”. لم تفت الكلمة حراس النوايا المتواجدين في مهمة الوشاية داخل المقهى، فراحت التقارير إلى حيث يجب أن تذهب. وكان بومدين يلتقي دوريا مع رجال الإعلام، مع أنه كان صارما ولم يكن هناك انفتاح ديمقراطي، ولا حرية صحافة ولا تعددية إعلامية، ومع ذلك كان الرئيس يلتقي دوريا بالصحفيين يستمع، يرد على تساؤلاتهم بكل ديمقراطية. لكنه هذه المرة لم يفوت الفرصة وقال ضاحكا ”واش سي الطاهر ما كان حتى شيء نورمال في هذه البلاد غير البيرة؟!. فرد عمي الطاهر ضاحكا: ”وصلوهالك حتى هذه؟!”. رحم الله عمي الطاهر ورحم الله بومدين. أعرف أن المنافقين سيثورون على الرجل وعلى نقلي لهذه الحادثة في زمن التدين والنفاق، لكنها حادثة طريفة تضع الرجلين في حجمهما الإنساني لا غير!