جامعة بجاية، نموذج للنجاح    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    ملابس جاهزة: اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    قسنطينة: افتتاح الطبعة الخامسة للمهرجان الوطني "سيرتا شو"    الطبعة الرابعة لمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي : انطلاق منافسة الفيلم القصير    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    وزير النقل يؤكد على وجود برنامج شامل لعصرنة وتطوير شبكات السكك الحديدية    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    بطولة وطنية لنصف الماراطون    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع أبراج    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    الجزائر تحيي اليوم العربي للشمول المالي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطاهر بن عائشة: الذاكرة وخيبات الزمن المر!!
نشر في الجزائر نيوز يوم 23 - 02 - 2013


ذاكرة العقد التاسع!
رغم أن الرجل لم يعد يفصله عن العقد التاسع من عمره سوى أقل من عام، ورغم ماعاناه في حياته من صعوبات ومتاعب وتقلبات، ورغم ما ناله من قسوة الحياة وأهوالها ومرها ومن تشريد عن بيته وزوجته وأبنائه خلال سنوات الإرهاب الأعمى في التسعينيات، حيث كان مهددا بالموت والقتل في كل لحظة مثله مثل كل الصحفيين والمثقفين المتميزين، ورغم أنه كان أول صحفي جزائري يُجْبر على التقاعد المسبق دون السن القانونية للتقاعد في الجزائر التي ناضل وجاهد من أجل استقلالها، رغم كل هذا ورغم السجن الذي عاناه زمن الاستعمار، فإن شيخ المجادلين اليساريين دون منازع الأستاذ الطاهر بن عائشة، مازال صامدا ضد ثقافة الجحود والنكران والنسيان وضد الانحرافات أيا كان شكلها، بل مازال صامدا ضد ثقوب الذاكرة التي بالرغم من خيبات الأمل التي اعترته عبر الزمن الصعب الذي كابده وتنكر الأصدقاء له والصدمات والإرهاق والقلق، رغم كل هذا فإن الطاهر بن عائشة، مازال يصارع ذاكرته لكي لا تكون شاهدة على خيانة تاريخه وتدوين ما عاشه في ماضيه مره وحلوه.
تختلف معه أو تتفق، لكن الرجل في كل الحالات يفرض عليك احترامه الكبير لثقافته الواسعة في الدين وفي الأدب، في التاريخ والفلسفة، في تاريخ الشخصيات البارزة وطنيا وعالميا وإسلاميا، فالرجل موسوعة متنقلة وذاكرة حية عن التاريخ في الوطن بل والتاريخ الإسلامي رغم اتهامه باليسارية، تحترمه أيضا لوطنيته المفرطة، ولتعففه عن المادة وعن المناصب أو الجري وراءها.
عرفتُ سي الطاهر، قبيل دخولي للجامعة بشهرين، أي منذ حوالي 42 عاما تقريبا، وكان ذلك منذ نهاية صائفة 1971، فقد التحقت بالقناة الرابعة للإذاعة التي انطلقت في البث في شهر أوت من ذلك العام، إثر مسابقة كان من بين الذين نجحوا فيها معي الدكتور عمر سعد الله شقيق الدكتور أبو القاسم سعد الله وعبد الرزاق جبالي وقاسم كبير أحد الأعضاء المؤسسين لاحقا للأرندي ومحمد الصالح ونيسي الكاتب المختص في التراث الشاوي.
كان سي الطاهر، منتجا لإحدى برامج تلك القناة التي كانت موجهة للمشرق العربي، ومنذ أن عرفته في تلك الأيام وجدته مجادلا مشاكسا لا يتخلى عن أفكاره ولا يجامل أيا كان إطلاقا حتى لو تعلق الأمر ب “خبزته"، كما يقال.
الموقف والتقاعد المبكر..
كان مثلُ هذا الموقف هو الذي أحاله على التقاعد المبكر بل وحرمه من خبزته لفترة طويلة وحتى من دخول مؤسسة الإذاعة والتلفزيون بقرار وزاري، وهي المؤسسة التي انضم لها مبكرا في نوفمبر 1962.
زرتُه في بيته المتواضع بضواحي العاصمة مطلع الأسبوع المنقضي ورحت أستفزه على مدى ساعات ونحن وحيديْن على فتح بعض الدفاتر القديمة والنقش في الذاكرة التي لاحظتُ هذه المرة أنها لم تكن مقيدة كما كانت في الماضي، فقد اعتراها الصدأ ولوثتها خيبات الزمن المر، ومع ذلك فإن هذه الذاكرة ما تزال تتذكر كثيرا من الحقائق بشكل مذهل تظن أن صاحبها مازال في عقده الخامس أو أقل من ذلك إذا ما قارنت الرجل بمثقفين آخرين.
اعتدل سي الطاهر في جلسته وراح يردد علي ثلاثة أبيات شعرية لشاعر وطني مجهول، كان ذلك خلال شهر ماي 1945، فقد كان الطالب الطاهر بن عائشة، قد أنهى دراسته بجامع الزيتونة وركب القطار عائدا لبلدته بقمار بوادي سوف بعد أن عجلت هيئة جامع الزيتونة بإجراء امتحان الطلبة الجزائريين وطلبت منهم العودة إلى بلادهم فورا لتتبع أخبار عائلاتهم إثر مجازر ماي 1945 الرهيبة التي ارتكبت من قبل السلطات الاستعمارية في حق الشعب الجزائري.
قبل مواصلة الرحلة على متن إحدى الشاحنات من بسكرة نحو قمار استراح الطالب المتعب في إحدى المقاهي بعاصمة الزيبان بسكرة، ينتظر إقلاع الشاحنة عبر رحلة شاقة كانت تستغرق 48 ساعة في ذلك الزمن، كان حديث الناس في تلك الأيام لا يدور سوى عن تلك المجازر الشنيعة ضد الشعب الجزائري، وجلس الطالب الزيتوني بن عائشة ذو ال 21 عاما بالقرب منه في تلك المقهى خمسة رجال راح أحدهم يتلو الأبيات الشعرية التالية التي اختزنتها ذاكرة الشاب دفعة واحدة:
تبسة الجميلة تشكو ما ألم بها فتجيبها بدموع الحزن وهرانُ
من واد سوف إلى عنابة أفئدة قد جُرعت بكؤوس الظلم ألوانُ
رب طفل صغير مسه ألم وشيخ كبير مات عطشانُ
وفجأة كما يذكر سي الطاهر وجد أحدهم يقول له إن الشاحنة ستنطلق نحو قمار الآن.
حز في نفس الطاهر عندها أن يُحْرم من مواصلة الاستماع لبقية القصيدة التي لا يعرف ناظمها لحد الآن، لكنه مازال يحفظ أبياتها منذ سمعها للمرة الأولى والأخيرة في ذلك اليوم من شهر ماي عام 1945!!..
من بين الرجالات الذين عرفهم سي الطاهر ويحكي عنهم بإعجاب وتقدير كبير مثله الأعلى في المواقف والجرأة والكتابة الراقية شعرا ونثرا الشيخ سعيد الزاهري.
يقول الطاهر بن عائشة: إن شخصية الشيخ السعيد الزاهري شخصية نادرة لن تتكرر، ويضيف إن هذا الرجل ذو المواقف الإصلاحية الجريئة لا يرقى إليه شخص آخر في الكتابة النثرية والشعرية والخطابة والفصاحة والمواقف، وربما تكون شخصيته القوية الآسرة واحدة من العوامل التي عجلت للأسف بتصفيته جسديا من قبل مَن ندم على ذلك أثناء الثورة.
عمل سي الطاهر صحفيا محررا مع أستاذه السعيد الزاهري في صحيفته “عصا موسى"، التي أصدرها عام 1950، وكان ينفق على إصدارها الشيخ الطيب العقبي رحمه الله.
ولكن السلطات الاستعمارية أوقفت هذه الصحيفة بعد صدور 16 عددا منها بسبب المواقف الجريئة التي كانت تتضمنها ضد الاستعمار وسياسته الاندماجية وضد أعوانه.
يذكر سي الطاهر للتاريخ من أن الشيخ السعيد الزاهري، كان في خلاف مع المرحوم توفيق المدني حتى أنه هجاه هجاء لاذعا في إحدى القصائد، لكن المرحوم توفيق المدني يقول مع ذلك في حق السعيد الزاهري مخاطبا الطاهر بن عائشة: إن السعيد الزاهري هو سيد من حمل القلم شعرا ونثرا دون منازع في هذا الوطن.
ويتحدث سي الطاهر كذلك بإعجاب كبير عن البطل الكبير الشهيد مصطفى بن بو العيد، الذي التقاه أكثر من مرة عندما أوفده حزب الشعب الجزائري للقيام بحملة انتخابية لصالح الحزب في انتخابات عام 1948 في الأوراس والزيبان، بقوله بأنه وطني كبير وعملاق أوراسي متزن وهادئ تنفذ كلماته إلى العقل كالرصاصة التي لا تخطيء الهدف.
العملية التي سبقت ليلة أول نوفمبر..
قام الطاهر بن عائشة، صحبة رفيق دربه في حزب الشعب الجزائري عبد الكريم هالي، بعملية سبقت اندلاع شرارة أول نوفمبر، وكان ذلك يوم الثامن من أكتوبر 1954.
وتمثلت هذه العملية في إحراق متجر أحد اليهود المعروفين بمعاداتهم الكبيرة للجزائريين بقلب مدينة الجزائر.
ويذكر سي الطاهر، الذي يحتفظ بصورة كبيرة له في بيته مع الشهيد البطل عباس لغرور، أن هذا الأخير قال له مباشرة بعد هذه العملية خلال لقاء جمعهما بالجزائر العاصمة أنه لو واصلنا عمليات من هذا القبيل ثم يأتي الأوروبيون لإطفاء النار فكأننا بذلك لم نقم بأي شيء.
ثم طلب منه لغرور، أن يذهب لفرنسا لجلب السلاح والمال من هناك للإعداد للعمل المسلح.
ولذلك شد الرجل الرحال نحو فرنسا رغم أنه لم يكن يحسن التكلم بالفرنسية، وفي باريس التقى بمصالي الحاج لأول مرة بوقت قليل قبيل اندلاع الثورة.
ويذكر الطاهر بن عائشة مستغربا، أنه كان يحمل صورة عن مصالي بأنه رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، لكنه فوجيء به يقرأ مقدمة ابن خلدون، وهو ما جعله يغير نظرته تماما عنه.
لكنه مع ذلك، يشير إلى أنه لم يجد لدى مصالي عندما تحدث له عن ضرورة العمل المسلح في الجزائر أي حماس لذلك بدعوى أن الوقت ليس مناسبا لذلك.
ويذكر سي الطاهر، أن أول من أخبره باندلاع الثورة هو المرحوم عبد الكريم سويسي، وقد قال له سي الطاهر عندها مستغربا: “بعثوني لفرنسا وهم دايرين حالة في الدزاير!!".
كان من بين من عرفهم أيضا العقيد محمدي السعيد والعقيد الشهيد عميروش، حيث مكث بصحبة هذا الأخير كما يقول شهرا ونصف الشهر على الحدود الجزائرية التونسية، ولكنه لم يفصح عن رأيه فيه، واكتفى بالسكوت عندما سألته عنه، ولكنه قال عن العقيد محمدي السعيد بأنه كان معاديا لليساريين.
نص مجهول يقوده للإذاعة!!
كانت قصة انضمام سي الطاهر، لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون في شهر نوفمبر عام 1962 غريبة حقا، فمع بداية الدخول الاجتماعي أرسل سي الطاهر طلبين للتوظيف لكل من وزارة العدل ووزارة التربية، وجاءته الموافقة من الوزارتين، الأولى ليكون قاضيا في واد الفضة بعين الدفلى، والثانية بالقبول معلما في حجوط قرب تيبازة، لكنه فضل التعليم لقرب حجوط من الجزائر العاصمة.
وأرسل المعلم سي الطاهر، نصا يتضمن ستا وثلاثين صفحة للإذاعة والتلفزيون آنذاك يتعرض فيه للتناقضات التي عرفتها الثورة.
لم يرفق الطاهر بن عائشة النص باسمه وبعثه باسم مجهول، وعندما وقع في أيدي أعضاء لجنة قراءة النصوص التي تم تنصيبها مباشرة بعد استعادة الإذاعة والتلفزيون قبيل ذلك بأيام، مباشرة بعد 28 أكتوبر تاريخ رفع العلم فوق مبنى الإذاعة والتلفزيون، أعجب الجميع بالنص الذي لم يعرفوا صاحبه، وراح الراحل عيسى مسعودي أول مدير عام للإذاعة والتلفزيون يحث الجميع على البحث عن صاحب النص المجهول، ولعل من حسن الصدف أن عبد العزيز شكيري، الذي رفع العلم الوطني فوق مبنى المؤسسة كان يعرف صاحب الخط ومكان عمله، فأسر لأعضاء اللجنة باسم صاحب النص، فما كان من المدير العام عيسى مسعودي، إلا أن طلب منه في تلك اللحظة بالذات التوجه حالا للطاهر بن عائشة لكي يدعوه ليباشر العمل بالإذاعة، قائلا:
هذا الرجل الذي أعرفه مهمته العمل في الإذاعة وليس التعليم!
وهكذا كانت بداية سي الطاهر مع الإذاعة التي انكب فيها بكل جد ومثابرة على إعداد وكتابة 4 برامج أسبوعية من بينها: صوت العمال، ومنك السؤال والجواب، ونافذة على إفريقيا.
ولم يكتف الطاهر بن عائشة بالعمل الإذاعي وحده، بل كان وراء تأسيس صحيفة الثورة والعمل الناطقة باسم الاتحاد العام للعمال الجزائريين، كما أسهم مع صديقه السابق المرحوم الطاهر وطار في إنشاء جريدة الجماهير.
سي الطاهر اليسار والتوبة!
ويتوقف الطاهر بن عائشة لحظة ويقول لي بكل تأثر: هل أفشيك سرا إذا قلت لك بأنني أول مَنْ أقنع الطاهر وطار ليكون يساريا!!
وأساله ضاحكا: إذن أنت من أفسدت عليه إيمانه وإسلامه؟
فيرد، وهل تعتقد أن اليسار كفر وزندقة، ويضيف إن اليساري القويم الخادم للمجتمع والمتشبع بالقيم والمبادئ أحسن من المتأسلم الدجال المتاجر بالدين.
ثم يذكرني بأن أحد أصدقائه منذ مرحلة الشباب كان يساريا ومع ذلك فلم تكن سجادة الصلاة تبرحه أينما حل وارتحل.
وعندها ذكرته مداعبا بما قلتُهُ له عندما قدمني خلال محاضرة ألقيتُها بالمكتبة الوطنية في جانفي 2005، حيث رويتُ له على لسان شاه إيران السابق رضا بهلوي قوله للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل: بأن من لم يتأثر بالشيوعية واليسار عموما قبل سن العشرين ليس بإنسان، ولكن من يبقى متأثرا بهما بعد سن العشرين فهو ليس كذلك بإنسان!!
فقال لي إذ ذاك وهل تظن بأنني لست بإنسان؟
فقلت مداعبا: تأمل ذاتك لكي تحكم على نفسك بنفسك!!
وعندها راح سي الطاهر يبتسم بعفوية المثقف اليساري والمسلم المتفقه في الدين، الذي لا يتوقف عند ويل للمصلين.
قد يسألني بعضهم بعد كل هذا بقولهم: وماذا قدم هذا الطاهر بن عائشة للدين الإسلامي وهو المعروف لدى العديد من المثقفين خصوصا بيساريته؟
ولا أجد من كلام سوى القول:
ألم يكن هو الذي جاب إفريقيا والعديد من الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى وإسبانيا، وأنتج للتلفزيون الجزائري عشرات الحلقات عن الإسلام في عصوره الزاهية وخاصة في الأندلس، وبيّن في تلك الحلقات أنه مدافع شرس عن الإسلام في بعده الحضاري والإنساني والاجتماعي وعن العدل الذي حققه خصوصا في ظل خلفاء من أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن العزيز رضي الله عنهما، مما جعل الإسلام يعم بسرعة البرق عبر العالم وينتشر بفضل ما كان ينشره بين الناس من فضائل وتآخ، وما يزرعه من حكم راشد لا فرق فيه بين حاكم ومحكوم وما يقيمه من عدل ومحبة عبر حوار راق يشارك فيه علماء أجلاء إلى جانب الخليفة والأمير والسلطان، ويبينون للناس أوجه الصواب من الخطإ بالحجة والمنطق وبالتأويل القائم على استخدام العقل والخالي من الشعوذة والدجل، وليس عبر فتاوى مغلوطة تبرر قتل العلماء والأئمة والشعراء والحكماء وحتى قتل الرضع والنساء والشيوخ والأبرياء بغير حق مثلما يحدث اليوم، وهي فتاوى يزرعها دخلاء على الإسلام وجهلة لا صلة لهم لا بالعلم ولا بالإسلام.
ما يزال الكثير من المثقفين يتذكر أفكار سي الطاهر الجريئة التي طرحها في محاضرته الجريئة المعنونة ب “اليسار في الإسلام" التي ألقاها بالمركز الثقافي الإسلامي بالجزائر العاصمة في السبعينيات عندما كان المرحوم مولود قاسم على رأس وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، وكان المرحوم أحمد حماني، على رأس المجلس الإسلامي الأعلى، وقد جند كلا الرجلين مولود قاسم وحماني عددا من الأئمة والعلماء للرد على أفكار بن عائشة.
ومع ذلك، فإن هذه المحاضرة التي استغرق إلقاؤها ساعتين، وتبعتها مناضرة على امتداد ثلاث ليال كاملة كان النقاش فيها خلال شهر رمضان حادا يبدأ بعد صلاة التراويح مباشرة ولا ينتهي إلا قبيل كل فجر، ومع ذلك، لم يستطع خلالها ذلك الجيش العرمرم بما فيه الوزير الموسوعي مولود قاسم والعالم الجليل أحمد حماني رحمهما الله من مغالبة اليساري الزيتوني الطاهر بن عائشة.
وعندها، صرخ المرحوم أحمد حماني في وجه الطاهر بن عائشة بشأن لقبه قائلا له: كل الناس يُنْسَبُون لآبائهم، إلا أنت يا بن عائشة فإنك تُنْسَبُ إلى أمك.
وعندها ابتسم الطاهر بن عائشة ورد على الشيخ حماني رحمه الله الذي يعترف له سي الطاهر بأنه واحد من عمالقة الفكر الإسلامي بكل أدب وهدوء وروية بقوله: إنه لشرف لي ذلك أن أكون ثاني اثنين يُنسبان لأمهما: عيسى بن مريم عليه السلام والطاهر بن عائشة!!
وقد كان رأي الحضور أن يتواصل النقاش المناظرة لليلة الرابعة على التوالي، لولا أن سفر سي الطاهر خارج الوطن حال دون ذلك!!
عندما عاد الطاهر بن عائشة من الحج في مطلع الثمانينيات، زاره عدد من أفراد عائلته ومن الأصدقاء، وكان من بين من زاره مهنئا ابن عمه عبد الرحمن بن عائشة، وهو رجل مثقف اغتيل رحمه الله عندما كان رئيسا لبلدية قمار خلال عملية إرهابية شنيعة.
ولما عاد المرحوم عبد الرحمن لقمار وكان الوقت شتاء التف حوله عدد من المعارف والأصدقاء يسألونه مستغربين: هل تاب سي الطاهر فعلا بعد أن حج؟
وبنباهة أهل وادي سوف وحدة ذكائهم قال عبد الرحمن:
بالله عليكم هل رأيتم في حياتكم شخصا ينهض مع صلاة كل فجر في مثل هذا الشتاء القارص للوضوء والصلاة ولا يكون كامل الإيمان؟
ثم أضاف لتأكيد إيمان سي الطاهر: هذا ما رأيتُه بعيني طيلة الأيام التي قضيتُها عند الحاج الطاهر!!
وضحك الجميع واعتبروا أن توبة الحاج الطاهر توبة لا شك فيها..
والآن وسي الطاهر في مثل هذه السن، فقد تدخل بعض الثقوب ذاكرة الرجل بفعل الزمن القاسي الذي عانى منه على امتداد ما يقرب من تسعين عاما في النضال في حزب الشعب ثم في جبهة التحرير الوطني قبل أن يهجرها في الثمانينيات بعد أن أدرك أنه جاء للنضال مع مَنْ كانوا مناضلين مثله، فإذا به يجد نفسه كما قال يناضل ضدهم وضد أنانيتهم وتصرفاتهم الانتهازية.
عمل سي الطاهر في الصحافة المكتوبة، وأنتج للمسرح، وأنتج العديد من البرامج والأشرطة للإذاعة والتلفزيون، ومارس السياسة قبل ذلك بمنطق المناضلين الشرفاء، بل وعمل في مهن أخرى من بينها التعليم الذي هربه منه الراحل عيسى مسعودي.
وبعد هذا العطاء الكبير والعمر الطويل، قد يعتري الرجل الآن بعض الضعف في الذاكرة ويصيب جسمه المنهك بعض الوهن بفعل الكبر والتعب وخيبات الزمن المر، لكن سي الطاهر مع ذلك يبقى مثقفا موسوعيا من طراز خاص قلما يجود به الزمن في المستقبل.
وإذا كنتُ لا أستطيع عتاب الرجل لكونه لم يطبع أي كتاب يحفظ به ما تركه للأجيال من أعمال، فإنني أناشد وزارة الثقافة ومختلف الهيئات الثقافية المتخصصة وعلى رأسها المكتبة الوطنية أن تبادر بطبع مختلف المقالات والمحاضرات وتفريغ مختلف البرامج الإذاعية والأشرطة والروبورتاجات التلفزيونية لتضعها أمام جمهور القراء كي لا يضيع مثل هذا العمل الجبار الذي أنجزه هذا الرجل الزيتوني، اليساري، المسلم على امتداد حوالي سبعين عاما.
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.