بلعريبي يتفقد مشروع إنجاز المقر الجديد لوزارة السكن    التعاون الإسلامي تعرب عن أسفها لفشل مجلس الأمن في تمرير مشروع قرار متعلق بإنضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة    إستشهاد أربعة فلسطينيين جراء قصف صهيوني على غرب مدينة غزة    كرة اليد/كأس إفريقيا للأندية: إحتراف نادي الأبيار التحدي الجديد للإدارة    كرة اليد/بطولة إفريقيا للأندية: حفل إفتتاح بهيج، بألوان سطع بريقها بوهران    تجارة: زيتوني يترأس إجتماعا لتعزيز صادرات الأجهزة الكهرومنزلية    بجاية: مولوجي تشرف على إطلاق شهر التراث    هيومن رايتس ووتش: جيش الإحتلال الصهيوني شارك في هجمات المستوطنين في الضفة الغربية    عميد جامع الجزائر يستقبل المصمم الألماني لهذا الصرح الديني    باتنة: إعطاء إشارة تصدير شحنة من الألياف الإصطناعية إنطلاقا من الولاية المنتدبة بريكة    بلمهدي يبرز أهمية التوجه نحو البعد الإفريقي عبر الدبلوماسية الدينية    الانتهاء من إعداد مشروع صندوق دعم الصحافة    وزير الاتصال : منع دخول الصحفي فريد عليلات الى الجزائر لا يتعلق به كمواطن بل كمبعوث للوسيلة الاعلامية التي يشتغل فيها    عطاف يجري لقاءين ثنائيين مع نظيريه البرازيلي و الاردني بنيويورك    "مشروع تحويل المياه من سدود الطارف سيحقق الأمن المائي لولايتي تبسة و سوق أهراس"    محاكم تجارية متخصصة: اصدار توصيات لتحسين سير عمل هذه المحاكم    وزير الصحة يشرف على لقاء لتقييم المخطط الوطني للتكفل بمرضى انسداد عضلة القلب    مسار إستحداث الشركة الوطنية للطباعة جاري    وزارة الدفاع: إرهابي يسلم نفسه ببرج باجي مختار و توقيف 10 عناصر دعم خلال أسبوع    كأس الجزائر: رباعي محترف يلهب الدور نصف النهائي    تابع تدريبات السنافر وتفقّد المنشآت الرياضية: بيتكوفيتش يزور قسنطينة    وزير الاتصال و مديرية الاعلام بالرئاسة يعزيان: الصحفي محمد مرزوقي في ذمة الله    سطيف: ربط 660 مستثمرة فلاحية بالكهرباء    أرسلت مساعدات إلى ولايات الجنوب المتضررة من الفيضانات: جمعية البركة الجزائرية أدخلت 9 شاحنات محمّلة بالخيّم و التمور إلى غزة    سترة أحد المشتبه بهم أوصلت لباقي أفرادها: الإطاحة بشبكة سرقة الكوابل النحاسية بمعافة في باتنة    انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة : تأجيل التصويت على مشروع قرار الجزائر إلى غد الجمعة    من خلال إتمام ما تبقى من مشاريع سكنية: إجراءات استباقية لطي ملف «عدل 2»    أكاديميون وباحثون خلال ملتقى وطني بقسنطينة: الخطاب التعليمي لجمعية العلماء المسلمين كان تجديديا    سيشمل نحو 23 ألف مستثمرة: تجنيد 125 إطارا للإحصاء العام للفلاحة بأم البواقي    كرة اليد/كأس إفريقيا للأندية (وهران-2024): الأندية الجزائرية تعول على مشوار مشرف أمام أقوى فرق القارة    68 رحلة جوية داخلية هذا الصيف    عون يؤكد أهمية خلق شبكة للمناولة    الحكومة تدرس مشاريع قوانين وعروضا    الجزائر ترافع لعضوية فلسطين بالأمم المتحدة    أطفال ونساء في مواجهة الجلاّدين الصهاينة    تظاهرات عديدة في يوم العلم عبر ربوع الوطن    لم لا تؤلّف الكتب أيها الشيخ؟    مجمع سونلغاز: توقيع اتفاق مع جنرال إلكتريك    تفكيك جماعة إجرامية تزور يقودها رجل سبعيني    هذا موعد عيد الأضحى    أحزاب ليبية تطالب غوتيريس بتطوير أداء البعثة الأممية    استحداث مخبر للاستعجالات البيولوجية وعلوم الفيروسات    أول طبعة لملتقى تيارت العربي للفنون التشكيلية    ضرورة جاهزية المطارات لإنجاح موسم الحج 2024    نحضر لعقد الجمعية الانتخابية والموسم ينتهي بداية جوان    معارض، محاضرات وورشات في شهر التراث    شيء من الخيال في عالم واقعي خلاب    مكيديش يبرر التعثر أمام بارادو ويتحدث عن الإرهاق    نريد التتويج بكأس الجزائر لدخول التاريخ    حجز 20 طنا من المواد الغذائية واللحوم الفاسدة في رمضان    نسب متقدمة في الربط بالكهرباء    تراجع كميات الخبز الملقى في المزابل بقسنطينة    انطلاق أسبوع الوقاية من السمنة والسكري    انطلاق عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان    أوامر وتنبيهات إلهية تدلك على النجاة    عشر بشارات لأهل المساجد بعد انتهاء رمضان    وصايا للاستمرار في الطّاعة والعبادة بعد شهر الصّيام    مع تجسيد ثمرة دروس رمضان في سلوكهم: المسلمون مطالبون بالمحافظة على أخلاقيات الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا الذي أُجيدُ التَّساقطَ في الظَّلامِ ببصيرةِ الضَّوء
محمَّد حلمي الرِّيشة


مها بكر
1-
بياضكِ
يكفي
نُقصاني
.
.
أَيتها اللُّغة.
2-
أَستعيرُ من صمتكِ
صوتَ الوصفِ
أَنا الذي!!!
أُجيدُ التَّساقطَ في الظَّلامِ
ببصيرةِ الضَّوء.
3-
رأيتَ الشِّعرَ
ينهمرَ من كبدِكِ عليَّ
وروحكِ الجارفة
مجدولةٌ بخيالي الجارف.
4-
مُذ تسرَّبتْ
أَصابعُكِ إلى عظامي
وأَنا أَكتب بيدِ الحبِّ
مُذ تسرّبتْ
أَنفاسكِ إِلى دمي
لم يتسلَّلْ خيالي
خيال النَّدم
أَيتها اللُّغة.
.
.
مُذ ابتغيتُ غيابي العالي بكِ
ووجهي يعكسُ ألوانَ صفاتكِ
ويحجبُ اليأْسَ عنِّي
ثباتُ أَبيضكِ الشَّريد
علَّمَني كيف أَتنفَّسُ الشِّعرَ
برئةٍ تُحصي كلَّ الهواءِ
المتدفِّقِ من علومكِ
.
.
أَيتها اللُّغة.
5-
أُجازفُ بأِصابعي
كي أَنالَ يديكِ.
6-
أَعتنقكِ في النَّثرِ
كي أَعثُرَ
على خَصائص رُوحي
لا تُستنفَدُ
ولا تجفُّ
ولا تُفنى
تُعطي أَصابعَكِ حتَّى الشِّعرِ
وحتَّى الله "يرضى".
7-
يدايَ هما مرآةُ رُوحي
أَمَّا عينايَ
فلا تُحدّقي فيهما
لأَنكِ لن تجدي
غير الشِّعرِ والخوف.
8-
ضياءُ الشِّعرِ
هو أَشدُّ ظلامًا منِّي
عندما لا أَجدكِ به.
9-
يشتعلُ خيالي
من تلامُسِ روحي لنكهةِ روحكِ
تتحقَّقُ حرِّيتي
ويتحقَّقُ الشِّعرُ
.
.
أَيتها اللُّغة.
10-
شاهدتُ اللُّغةَ في يديكِ
تمنحُ أَصابعي
نعمةَ الحرفِ
وصفاتِه النقيَّة.
هي روحه الشاعر محمد حلمي الريشة؛ الروح المنسوجة من هبوب الشعر عليها، من تدابير العزلة، من الوحدة لمّا تفيضُ عليه، وتشحذ الخيال بلوعة الخيال، ترسمُ لأنامله بياضًا يعلو بياض اللغةِ؛ لا يحجبها ألم، ولا تورية، ولا مجاز. يتأهبُ لها في غفلةٍ وصحوةٍ متنافرتين في أناشيده الشعريةِ حتى الجمال، فينبثقُ كلامٌ/هواءٌ، وتموج أطياف كائناته الشعرية المختزلةِ في امرأةٍ تكادُ تكون هي الكتابةِ كلها، هي الرقعة التي لا تضيق، هي سخاءُ اللغةِ تُنعشُ سطوره بما يملي عليه حبرُ المخيلةِ ودهائها، تستحضرُ من أفقه الكلمات الشاردة والأليفة، تأخذه من الشعر الدفين بدواخله إلى حدودها القصوى، يغزلها مجازًا مترجمًا لوعته بتآويل فرحة، منتشيًا بعزلته المفتوحة على شسع الشعرِ، تُحيط به هالاتها المسكونةُ بالوحيِ والصمت، يتذوق اللغة وهي تنجبُ من روحه أرواحًا.
"أَمُدُّ جَنَاحَيَّ
أُحَرِّكُ هَوَائِيَ
لَمْ تَعُدِ الأَرْضُ تُشْبِهُنِي".
*
"لَوْ أَيُّ شَيْءٍ.. لَوْ كُلُّ شَيْءٍ
لَنْ يُجَفِّفَ دَمْعَةَ الْوَرْدَةِ
الَّتِي سَالَتْ مِنْ عَيْنَيَّ".
كأنه الشعر لديه هو البقاء، يكتشف به ذاته وهيامها بالأشياء، يضيف لوحشة العالم بعضًا من دفء اللغة ليقوى على الفراغ، يحوّله إلى روحٍ تشاركه الوحدةَ الجامعة لأرواح الشعرِ، يجعله ينطقُ ويتأمل حرير المعنى، بلا خوفٍ يجوبها تاركًا أثر خيالهِ النافرِ عليها، بينما قلبه، مكتنزًا بالريح، يترقبُ مجيء قصيدةٍ ما، امرأةٍ ما، أو أملٍ ما.
هو الصانعُ الماهرُ يؤلف من عجائن اللغة ذخيرة له، يُكملُ بها الطريق إلى جمال الشعر، يزيحها ببراعةٍ حتى تتوالد من ظلالها الصور الكثيفة والمسكونة به، والشبيهة بلهفة الشكل اليافعِ أن يسطعَ على مدارج التورية مُتخفيةً بين مكنوناته، وطبقات اللغة، يُجردها من كهولتها ويهيّئ لها أرضًا خصيبة، يرمي فيها بذور لهفته كي تنمو بينه وبين عوالمه أصناف الكلام المحروس بأصناف الهواء.
"أُخْرُجْ مِنْكَ..
إِنَّكَ الطِّفْلُ الَّذِي يَنْدَهُ عُصْفُورًا طَازَجًا
عَلَى شَجَرَةٍ ضَجِرَةٍ".
*
"مَسَاحَاتٌ بَيْضَاءُ تَمْتَدُّ أَمَامَكَ؛
لا رَصِيفَ لَهَا وَلا ظِلَّ..
وَحْدَكَ تَطْوِي،
وَتَطْوِيكَ الْكَلِمَاتُ،
بِسَاقِ الْيَرَاعِ الَّتِي تَنِزُّ سَوَادَ احْتِكَاكِ الْخُطَى".
شعرٌ كأنه هذيان الروح، من المستحيل أن تقبض عليه، غربةٌ تلهو بحواسه وهو يتتبع شوارد اللغة كأنه يبحث عن يقينٍ مُرٍّ أشبه بالمستحيل، يغيب الحلم بين يديه، يوقظ نارًا أشبه بنواح الدمِ، يغتسل بها، يمشط ضفيرتها، يهزّها من غفوتها والليل شبقه المنهوك، يستفيض مع أول الريح ويتلذذ بها، يرهف التأويل ويتيمّم برمال ذاكرته، عنيدٌ يلملم الأزرق من شرفات القصيدة، ويترك الريح في وجه السؤال، يصطاد من اللغة كل أبعادها الفراغية، نجومها، حدود مساحاتها الشاسعة، يتلمس خيوط معرفتها، ويعيش متعة اكتشاف ألقها.
"لا صَوْتَ.. لا صَدًى
فِي هَدْأَةِ النَّوْمِ هذِهِ
سِوَى رَنِينِ نَحْلَةِ الشَّوْقِ".
*
"فِي عَتْمَةِ الْخَرِيفِ
تَكْفِي زَهْرَةُ يَاسَمِينٍ
كَيْ تُضِيئَهُ حَدِيقَةً".
نصوصه بعيدة المنال تشبه السحر، طلاسم نفكك رموزها، نصاحب قيمها، نقترب منها، ونغوص في نهايات الرعشة لنعود من جديد إلى دروب التيه في مناخاته المتعددة، يغزل من الشوق بأزرق يديه سحابة ندية تهطل تحت قدمي عاشقة طرّز الحزن أهدابها كشكل قوس قزح.
قصيدته تعيش سفحها الممتد، لا تعيش حركة الانكفاء، فهي تعبر حدود صوتها لتتجاوز أسئلتها العميقة. تحيا مستقرة أحيانًا، لا تعير الكثير من الاهتمام بما يحاك خارجها، كأنها قيمة مطلقة، نتشارك معها ونتفاعل في مناخاتها المفتوحة بمداركنا الحسية والفكرية.
قصيدته وليدة روحه، وليدة التراكمات الثقافية الهائلة، تتعدد مصادرها واللون واحد، تعذبه حدود معرفتها الواسعة، يتجه نحو عمقها ليترك الطلاء بعيدًا، ويزخرف في الجوف، كأنه يبحث عن ضالته وهو يحمل لها هذه القدرة الهائلة على التغيير من جذورها ليتحرر من إزاء الموضوعة الخانقة إلى الفكرة الأعمق، اللغة ومرجعيتها الروحانية.
تتوالد الصور ونحن نقطفها من ألبوم مخيلته كأنها صور مشهديات لارتجالات جمالية عميقة تحمل في داخلها معنى لحقيقة الشعر وخاصيته.
شعرية فرحٍ وتيه، يعيد اكتشاف التخوم، تتكاثف الصور، يبحث عن دلالاتها الأصلية، يحررها من سجنها، يحركها ليضيف إلى كينونتها سمات تعبيرية بتواترات شعورية، لنسترسل في أفقه الشعري، ونتتبع بأبصارنا ما تتركه كثافة مخياله.
ما بين الفاصلة والأخرى، تتشكل تلك الوحدات الهائلة من الدلالات لتدلّك على دروب المرمى، يختزل، يضيف، لكنه يترك قارئه رهن إشارة ضمن سكناتها الموسيقية الدافئة، تراتيبُ، صرفٌ، نحوٌ، تكاوينُ رأسية وأفقية؛ قاعدتها اللغة في صياغاتها والدلالة من جهة معرفيته لقوانينها، الامتداد الكيفي في جمله الشعرية هي امتداد للغة تتحايل على سطورها لتخرج من المحدد إلى المجهول كقيمة بنيوية يبدأ بترتيبها، ثم يدمرها أنساقًا لتمنحه متعة العبور إلى اللا معنى لحيادها وكمال بيانها.
نصوص مبتهجة لا تعيش استعباد لغتها، أو نسيج كلامها، لكنها تمتد في الصياغة إلى أبعد من كثافة في الرؤيا الموصوفة، عبر استثماره صياغات شعرية غاية في الخصوصية بحجم الألم والشوق لمكان أدمنه في حبها، ترتدي نصوصه من الأبيض رماد ضيائها، ومن المتعة خيانتها، ومن الحركة مساحة مدِّها وجزرها.
مضيتَ ولِما
عينكَ المتناثرة
كلّما وصلت إلى البياض
الزاخرِ بغيابي.
*
أُحصّنُ العتبات بالظلِّ
أُقسِّمُ الشمسَ بيني وبينك
إلى نصفين؛
نصفٌ لتحميكِ من برودتي
ونصفٌ لتمنحَ قصائدي خيالَ النَّارِ
ثمّ
أتحوّطُ بكِ
ثمّ
واثقًا أدخلُ الشّعرَ
أيتها العزلة.
أسكنُ اللغة، أشرفُ من بياضها على ياسمينكِ، أتعوّدُ الألم وأمتهنُ الكتابة، أمضي بكلماتٍ تحملني من الظمأ إلى دفقِ مخيلةٍ تنهلُ من يديكِ، ومن الشوقِ إلى الشوق أُدوّن المتاهة، الأرضَ، الحبَّ وأطياف وجهي، أبحث بين العماء عن شعر يجزُّ عتمتي، أتتبع المجاز دليلاً إليكِ، أتلمّس المرونة من يدك الصارمة في الجسد والشهية في التأويل، أجبلُ بهجة الأفق الشريد بغيمكِ الشريد، أمضي وورائي أثر الحروفِ تجمعينها فخاخًا لي، تتمكنين مني في السرد البهيِّ عنكِ. تمنحني حواسّكِ أكثر ما يمنحه الشعر لي في غمرة توتر القلب.
"عَلَى زُجَاجِ النَّافِذَةِ الرَّطْبِ
كَتَبْتُ: أُحِبُّكِ
رَغْمَ يَقِينِي بِجَفَافِ إِصْبَعِي".
*
"بَصَمَاتُ الْحَوَاسِّ عَلَى أَضْلاعِ المَدَى
شَهَوَاتٌ مُؤَجَّلَةٌ فِي شُرُودِ الْحَنِينِ..
وَحِيدًا أُرَتِّقُ فِخَاخَ الأَمَلِ".
أترقبكِ، تطلعين من اللغة لأصطاد الطيور النائمة عند أطراف ثوبكِ، أنهبُ منها الرؤيا وما ضيعتُ من طفولةٍ ودهشة، أتوهمُ بأنكِ مازلتِ تقيمين في القصيدة، وتمتلكين مفاتيح تفاسيرها الغامضة، فأؤمنُ بما توهّمتِ لأتابع السير في الشعرِ، تآلفتُ مع الخسارةِ لأنتصر عليها، وأعودُ إليكِ مُعتزلاً اليأس، ومتسلّحًا بأحلام الغمام، أهطلُ على السطور بوضوح الماء، أجتازُ الرؤية بأملٍ كسيحٍ وقلبٍ معافى.
هي أنتِ؛
وردةُ الهجران
وحسبتُها وردةَ القلب..
تيهُ الأجوبة
وحسبتُها بوصلةَ الأسئلة..
هي العماءُ...
العماء
وحسبتُها قنديلَ الضائعِ..
هي البياضُ ينزُّ من قلبه الدّم
على ضريح الحبّ
وحسبتُها بهجةَ اللّيل الطّازج في الرّؤى.
هي نصالُ الوحشةِ
تنالُ مني متى تشاء
وحسبُتها الرسولةُ تغسلني ببكائها
من بكاء الحرف..
هي المنفى موغلا في نسياني
وحسبتُها المكانَ
ينام فيه القلبُ
وترتاحُ فيه الأصابع..
هي أنتِ
أنتِ القصيدةُ
وردةُ الهجران
وردةُ القلب.
يكتب الشاعر محمد حلمي الريشة بيدٍ متشقّقة من الشعر، يرصد نصوصه بقلبه وبعينه "الثالثة"؛ بعينٍ تحلم بسردٍ يطمئن هو له، يتجلى مخرِجًا الكلمات من أوكارها، نشمّ فيها عبق نثرٍ يسقيه بالصور الشعرية، بصدى أحبابٍ له غابوا، هو الصوفيُّ كأنه يخاطب أحدًا هو لا أحد، أو امرأة تُقبلُ إليه لحظة الكتابة، كأنه يقول لعاشقته اللغة: الشعر هو يدي لا يسندها في الخواء إلاّ يدكِ.
نسمع لهثَ أصابعه واللغة تطارده من نصٍّ إلى نص، ومن قصيدةٍ إلى أخرى، فلربما أيقن أن الكتابة هي الطريق، هي بهجة الضلال التي تفسد قسوة اليقين، مأخوذًا بها يفتح الباب المغلق ما بين الذاكرة والنسيان، ومابين الحب والألم.
ندخل عوالم تشكيله الشعري من بوابة مخيلته، من زخمها وكثافتها، مخيلته النازفة التي تُنجب نصوصًا من الأمل والعزلة والغياب، ولكلماته ظلالٌ، ولظلالها أجنحة، إنه اللغوي الذي يرسم حرية النثر بطاقة الشعر، ينتزع منها الفرح ليبقى حيًّا، يتمتع بأجواء الكتابة الوفيرة، ويشرب من الحبر المتأجج لحظة بزوغ الشعر وإطلالة الصور الشعرية المفتوحة على أكثر من دلالة، حيث يعمل على تكنيكٍ خاصّ وهو يحفر في اللغة مؤكدًا على خصوصية خلطته الشعرية، الكلمات لديه كاللون تُبهر البصر، لها ظلٌّ ونور، تقبع بين عتمةٍ وضوء، وبين شغفه بالشعر، ينهل من خزينه المعرفي بأحوال اللغة وطقوسها وتبدلاتها، يبني معماره اللغوي معتبرًا إيّاها هويته فيقول: "إن أول جاذبيةٍ إلى النص الشعري هي لغته، هويته الجمالية الأولى".
"مَيَلانُ مَاءِ الشَّمْسِ
عَلَى وَجْهِ زَهْرَةِ الْيَاسَمِينِ
نَقْشُ أَبَدٍ
فِي رُخَامِ الإِيَابِ".
*
"تَتَقَطَّرِينَ فِي حَلْقِ الشَّاعِرِ الْفَرَاشَةِ
عَمَاءَ لَهْفَةٍ
لِعَطَشِهِ لِلضَّوْءِ".
*
"لا أَبْرَحُ شَجَرَةَ المَخْيَلَةِ؛
لَذَّةٌ تَرْتَدُّ إِلَى عُشِّ الشَّمْسِ
حِيْنَ أَشْهَقُ عُصْفُورَةَ الظِّلِّ".
لقصائده صوتٌ وطعم ولون، هو الذي يحاول بلوغ ذاته عبر ظل الأمل، ورائحة اللغة، وسحر الصور الشعرية البليغة والمتشربة بطاقة اللغة على الإبداع.
رفعتُ قلبي لأبصرَ اللّغة
تمتدُّ إلى اللا ما وراء
حيث أنتِ والمجازُ لا يُريان
وحيث الشّعرُ
لا يَخفتُ.
أطلُّ من يديكِ
على مخيلةٍ تُشبهني
لا تملكُ أجنحةً
وتُصرُّ على الطَّيران.
هو الشاعر الذي يحتفل باللغة، يتفحصها ويُنقّبُ بين كنوزها، اللغة المطعمة بنبرات الفرح والمنبعثة من عاطفةٍ قوية، يتعانق معها كأنه مكتشفها، يرتقي بها إلى حدّ العشق الصوفي، يكتب الوصل ما بينه وما بينها وبين العالم، ننجذب إلى الدفء الذي يعمُّ أرجاء سطوره، الدفء الذي يُزعزعُ به ركود اللغة حينما تخون، يجعلها تحسُّ به وتتنفّس رؤاه وعبق وجدانه الحي، هو الشاعر الحالم، يبني عوالمه الأخّاذة طوبةً طوبة من وحي صمته المفعم بالأصوات، هو الذي يحوّل العزلة إلى فضاءٍ تنهضُ منه القصيدة فارعة، مضاءةً بروح الشعر، بروحه.
لغةٌ رطبة وشهوانية، وكأنها امرأة أقسمت أن لا تفيض إلاّ في الرقص حين الألم، لغة مفعمة بالرموز تتلوى على نفسها وتوحي بالغواية والإغراء.
"تُرَاهَا تَضِجُّ بِأُنُوثَتِهَا
شَجَرَةُ الْخَوْخِ الْعَارِفَةُ
لِتَشْتَهِيَنِي؟"
*
"فِي انْصِهَارِنَا
تَصَبَّبَتْ بِلَّوْرَاتُ عَرَقِي فَوْقَ عَيْنَيْهَا
لآلِئَ تَزِيدُهَا فِتْنَةً".
*
"بِطَلاقَةِ خَصْرِهَا
أَمُدُّ عُشْبَ النَّشِيدِ
لأَبْتَكِرَ، كُلَّ مَرَّةٍ، رَقْصَتِي".
*
"النَّدَى يَحْتَكُّ بِالْوَرَقَةِ نَاعِمًا
حَتَّى الْغُبَارُ الْوَحْشِيُّ
يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ بِهُدُوءٍ".
لغةٌ تتعدد مستويات السّرد الشّعري فيها، وتأخذك بجماليات بنائها باتجاهاتٍ جديدة وبأنساقٍ، نتساءل عن إشكالية اللغة عند الشاعر محمد حلمي الريشة، وما تنتجه من معانٍ خاصة بها ضمن حركية لا تلبث أن تتجدد لامتلاكها التقنيات الجمالية المعاصرة، كأنها مقاربة بين الشكل الأدبي لديه الذي يبدأ من خلال تشكيل صوره البصرية معتمدة على "شيفرات" خاصة بها، فهي تبثُّ رسائل خاصة إلى القارئ وبين إحالة الأشياء وإرجاعها لمفهوم الحركة الداخلية للقصيدة كما يقول (بارت)، هي نصوص علاماتها متعددة وكثيفة في تصديرها، فهي رسائل رمزية وضمنية عبر خطاب أدبي مكتمل العناصر كأنه نوع غير قابل للتحوير والتغيير وهو يضخ مفاهيم جديدة في شريان نصه الأدبي، ليحرر القارئ من أي وسيط بينه وبين النص.
لغةٌ، هي رسالة وطريقة، إنها الحركة باتجاهاتٍ مغايرة تتسم أحيانًا بالانفلات والقطيعة، تحررنا من ثقل المعرفة، وركود الوقت، تنتصر على ذاتها، وتتصف بفرديتها لتدرك الفائت وتتجاوز الظاهر.
إنه محمد حلمي الريشة؛ الشاعر المتصوّف الذي يسعى في اللغة سعيَ العاشق إلى اللا خلاص منها.
"فِي الْحُلُمِ تَرَى أَكْثَرَ
فِي الْحَقِيقَةِ عَمًى
فِي اللَّذَّةِ".
*
"يُطْلِقُكِ الشَّاعِرُ مِنْ قَفَصِ رُوحِهِ،
بَعْدَ أَنْ يَشْعُرَ أَنَّكِ انْتَهَيْتِ لا اكْتَمَلْتِ..
لَوِ اكْتَمَلْتِ
لاكْتَمَلَ انْتِهَاؤُهُ".
*
"كَيْفَ يُسَافِرُ الشَّاعِرُ فِيكِ،
وَلا يَصِلُكَ أَبَدًا؟"
*
"لا أَجِدُ
مَنْ تَجِدُنِي
لا تَجِدُنِي مَنْ أَجِدُهَا
لا...
لا...
فَقَطْ؛
أَعُضُّ رُزْنَامَةَ النَّأْيِ حِيْنَ يَنْتَصِبُ
إِصْبَعُ المَخْيَلَةِ".
*
"يُقَامِرُ الشَّاعِرُ حَتَّى عَلَى خَسَارَةِ الْحَيَاةِ..
أَنْتِ تُرَاهِنِينَ عَلَى كَسْبِ خَسَارَتِهِ".
*
"إِلَى أَيْنَ بَعْدُ؟
كَأَنَّنَا وَصَلْنَا إِلَى حَيْثُ لا نَلْتَقِي
وَكَأَنَّ سُؤَالَ السُّؤَالِ جَوَابٌ".
*المقاطع الشعرية الموضوعة بين أقواس تنصيص هي من مجموعة الشاعر محمد حلمي الريشة الأخيرة "كأعمى تقودني قصبة النأي".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.