بحث سبل تعزيز التعاون وتبادل الخبرات بين المجلس الشعبي الوطني وبرلمان عموم أمريكا الوسطى    العدوان الصهيوني: بريطانيا تؤكد أن منع الاحتلال إدخال المساعدات الإنسانية لغزة "فضيحة أخلاقية"    غزة : يمكن وقف المجاعة عبر إدخال مساعدات إنسانية واسعة النطاق فورا    أمطار رعدية ورياح قوية مرتقبة على عدد من ولايات الوطن بداية من اليوم    ترتيبات خاصة بمسابقة التوظيف في رتبة "مربي تنشيط الشباب" لفائدة ولايات جنوب الوطن    وهران: إسدال الستار على الطبعة الرابعة عشرة للمهرجان الثقافي الوطني لأغنية الراي بمسرح الهواء الطلق "حسني شقرون"    إقبال واسع على الجناح الجزائري في معرض "صالون إفريقيا" المنظم بمدينة يوكوهاما اليابانية    بطولة الرابطة الاولى"موبيليس"/2025- 2026/: بداية موفقة لشباب قسنطينة وأولمبيك أقبو    الجزائر تدفع إلى التكامل بين الهياكل الأمنية والحوكمية للقارة    استشهاد 29 فلسطينيا في غارات مكثفة بقطاع غزة    أول رحلة بين الجزائر وتمنراست الإثنين المقبل    متعاملو الهاتف النقال ملزمون بتوسيع مجال التغطية    بلورة رؤية ناجعة لأنشطة المجتمع المدني    خطوة مهمة في مسار تيسير الخدمات القنصلية    بطاقة "ذهبية" خاصة بالطلبة الجدد    " صيدال" يكرّم أحد أبطال الإنقاذ في كارثة وادي الحراش    الجزائر تنهي المنافسة ب 23 ميدالية منها ست ذهبيات    أخبار اعتزالي غير صحيحة.. وهدفي أولمبياد 2028    انطلاقة ناجحة ل"الحمراوة" في انتظار التأكيد    نشاطات ثقافية متنوعة في بونة    حملات واسعة لتنقية الوديان والبالوعات    قتيل ومصابان في انحراف سيارة    "صيف بلا خطر".. حملة لحماية المصطافين    معركة "مركالة" 1956... فخر تندوف وعربون انتماء إلى الوطن    أفلام الثورة تُلهب مشاعر جمهور الفن السابع    مسرحية "أميرة الوفاء" تفتك "القناع الذهبي"    عنابة تعيد رسم ملامح المدينة المتوسطية الرائدة    المهرجان الوطني للموسيقى والأغنية الشاوية بخنشلة: سهرة ثانية على وقع الطابعين الفلكلوري والعصري    الخطوط الجوية الداخلية: اطلاق أول رحلة الجزائر - تمنراست يوم الاثنين    حيوانات برية: حجز قرابة 1200 صنف محمي خلال السداسي الأول    اقتصاد المياه: حملات تحسيسية لترشيد وعقلنة الاستهلاك    وهران: تدعيم المؤسسات الصحية ب 134 منصبا جديدا لسنة 2025    المغرب: أزمة البطالة تكشف زيف وعود الحكومة    البطولة الإفريقية لكرة القدم للاعبين المحليين-2024 (مؤجلة إلى 2025) (السودان/الجزائر): "الخضر" من أجل مكانة في المربع الذهبي    مؤسسة "بريد الجزائر": إصدار بطاقة دفع إلكتروني موجهة للحائزين الجدد على شهادة البكالوريا    كرة القدم"شان-2024"/المؤجلة الى 2025/: المنتخب الوطني يجري أول حصة تدريبية بزنجبار    العدوان على غزة: غوتيريش يشدد على أن المجاعة في القطاع لا يمكن أن تستمر "دون عقاب"    بمشاركة منشدين من ثمانية دول.. انطلاق الطبعة ال11 من البرنامج الإنشادي "حادي الأرواح"    الجزائر العاصمة : "المواطنة في ظل الاحتلال الفرنسي للجزائر والثورة التحريرية" محور ندوة    ابتسام حملاوي : اللقاءات مع المجتمع المدني فرصة لرصد التطلعات والاقتراحات    بمشاركة الوزير نور الدين واضح ممثلاً لرئيس الجمهورية.. الجزائر تعزز حضورها الدولي في تيكاد 2025    الأمين العام للاتحاد العام للعمال الصحراويين : تحقيق العدالة الاجتماعية في إفريقيا يستوجب تحرير القارة من كل مظاهر الاستعمار    حج 2026: تنصيب لجنة دراسة العروض المقدمة للمشاركة في تقديم خدمات المشاعر    انطلاق الطبعة الخامسة للقوافل الطبية التطوعية باتجاه مناطق الهضاب العليا والجنوب الكبير    أيام لطوابع الجزائر    30 سنة على رحيل سيراط بومدين    ابتكار دواء للسرطان    التُجّار الموسميون يغزون الشواطئ    16 فريقاً على خط الانطلاق.. بأهداف متباينة    الجزائر تواجه السودان    عرقاب يستقبل الأمين العام لمنتدى الدول المُصدّرة للغاز    هذه الحكمة من جعل الصلوات خمسا في اليوم    الدولة تولي أهمية خاصة لتشجيع الكفاءات الوطنية    فتاوى : هل تبقى بَرَكة ماء زمزم وإن خلط بغيره؟    خالد بن الوليد..سيف الله المسنون    قتلة الأنبياء وورَثتُهم قتلة المراسلين الشهود    مناقصة لتقديم خدمات المشاعر المقدسة في حج 2027    الوضوء.. كنز المؤمن في الدنيا والآخرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوحش والجميلة والذكاء الاصطناعي
نشر في الحياة العربية يوم 19 - 08 - 2025

شاهد ملايين البشر كيف التهم حوت الأوركا في عرض جماهيري مدرّبته الحسناء جسيكا. كان المشهد حقيقة مروّعاً، سواء لمن حضر مباشرة ذلك العرض المشؤوم، أو من تابعه في منصّات التواصل الاجتماعي. نقلته ملايين الصفحات بكل اللغات، وحبست البشرية أنفاسها وتألّمت. كانت مشاهد التهام الحسناء مروّعة، وهي تختفي بين أسنانه الحادّة ودماؤها تفور، حتى إن بعض صفحات مواقع التواصل طلبت من ذوي القلوب الضعيفة عدم متابعة المشهد حتى آخره خوفاً عليهم من مضاعفات الانفعالات القوية. ولقد لطف بنا الله، وبجسيكا وبالحوت، حين كُذَّب الخبر لاحقاً، وتبيّن أنه من وحي خيال الذكاء الاصطناعي.
أثبت الذكاء الاصطناعي بذيوع الخبر وانتشاره اللافت في مختلف شبكات التواصل الاجتماعي قدرة فائقة في إدارة الاقتصاد السياسي للعواطف الجيّاشة، وبكثير من الحكمة والحبكة. إنه درسٌ عميقُ الدلالة في قدرة التقنيات المذهلة على إنتاج "عواطف ومشاعر" مكثّفة لا يرقى إليها الشكّ. كانت الصورة وحدها قادرة على إنتاج الحقيقة وإخراس المشكّكين، وهي إلى حدّ قريب سيّدة الحقيقة، غير أنها تغدو خدّاعة، إذ يمكن إنتاجها من خيال مجنّح بعيد. يبدو أن البشرية ستعيش مستقبلاً برزخاً لا يمكن لها تماماً فرز الحقيقة فيه من الخيال، أو على الأقلّ سيتشابكان في ثنائية صمّاء، حتى تشتبه عليهم الحقيقة والخيال، الواقع والحلم معاً. ظلّت الصورة جزءاً من المعرفة والعقلانية التي راكمتها البشرية خلال تاريخ عقلها الطويل، غير أنها مع الذكاء الاصطناعي، ومختلف تقنيات التواصل الافتراضي، غدت بانية لعلمها الخاصّ، فلا هو حقيقة ولا هو خيال… إنها افتراض أقرب إلى البرزخ المذكور.
إلى جانب هذه القدرات الفائقة للتقنيات على إنتاج "الخدعة الحقيقة"، ثمّة جملة من الأسباب التي شكّلت حاضنة لذلك النجاح كلّه، الذي حقّقته القصّة المأساوية لحوت الأوركا وجسيكا. بُنى الخيال البشري منذ القدم، من خلال الأساطير والملاحم والأديان والكتب المقدّسة والطقوس، حكايات جميلة جمعت البشر والكائنات البحرية (في القرآن الكريم نقرأ قصّة يونس والحوت، وفرعون وموسى والبحر…). كانت هذه البنية التحتية المخيالية الخصبة حاضنة ثرّية لما راكمه الأدب والفنّ العالميان حديثاً. رواية الأميركي أرنست هيمنغواي "الشيخ والبحر"، الرائعة، التي حاز بفضلها جائزة نوبل للآداب، غدت أيقونة الأدب المعاصر الذي يستعيد في نفَسٍ ملحمي علاقة الإنسان بالبحر، وتحديداً علاقته بالحوت القاتل. التقابل بين مسنّ على عتبة الموت وحوت جامح ولعوب وقاتل هي منبع ذلك السحر كلّه، والتشويق الذي يظلّ يشدّنا إلى آخر الرواية. نقلت الراوية بحبكة رائعة تراث الصيّادين في كوبا، الذي ظلّ متواصلاً حتى خمسينيّات القرن. ليس العجوز سانتياغو بطل الرواية في النهاية سوى البشر في رغبته وتردّده وقوته وعجزه أمام البحر، وعالم الفقدان المريع، وثروة الحظّ المغرية والقاتلة في آن واحد، إنها معضلة الجهد البشري والثروة والحظّ اللعوب والماكر.
تعاطف سانتياغو مع ضحيته، إنها خصمه اللدود، غير أنه تحلّى بكثير من الشهامة والنبل. كانت بينهما علاقة إغراء وغواية، وكلّما تمنّعت وعاندت، أصرّ هو على ملاحقتها، حتى إن كان ثمن ذلك حتفه. قصّة صيد غير عادية على خلاف كلّ تصوّراتنا التي تذهب إلى اعتبارها فرصة لتعويض حظّه العاثر. لا يُقبل سانتياغو على الحوت مهرولاً، ولا متسرّعاً، فلقد مُنح فرصة نادرة لإطالة الزمن، وهو العجوز الطاعن في السنّ، وكلّما توهّم أنه تخلّص من عدوّ (سمكة المارلين أولاً)، بدأ معركة ضارية مع أنواع أخرى من القروش القاتلة التي تجلبها تباعاً روائح الدماء الغزيرة، التي لوّنت لجاج المحيط الهادر.
النفَس الملحمي والأسطوري لعلاقة الإنسان بالبحر وبالكائنات البحرية عموماً كان ملهماً للسينما أيضاً (فيلم "أسنان البحر" للمخرج ستيفن سبيلبرغ في 1975)، وليس من الغريب أن يغرف الذكاء الاصطناعي من هذا المنبع الخصيب، وهو بحاسّة شمّه الرهيبة يدرك مسبقاً أن حكايته ستجد قبولاً منقطع النظير. ها هي الحسناء جسيكا وحوت الأوركا يستعيدان معنا هذه الذاكرة كلّها، التي يلتقي فيها البشر والحوت، وما شابهه من أسماكٍ فتّاكة وجهاً لوجه. تماماً مثل الملاحم كلّها، تموت الحسناء بين أسنان حوت ربّته وأعطته من حنانها ولطفها، حتى روّضت أسنانه القاتلة قبلة على خدّها المتورّد. حدث ما يشبه ذلك في ألعاب السيرك، التي تلتهم فيها الوحوش الضارية (في ساعات الغفلة والاطمئنان القاتل) مروّضيها أمام جمهور يجد نفسه عاجزاً عن فعل أي شيء. في لمح البصر يتحوّل المشهد الممتع كابوساً دموياً قاتلاً، ومن هوْل ما يرى لا يصدّق ما يجري أمام عينيه مباشرة.
غير أن الاهتمام المبالغ بمتابعة هذه القصة، الممتعة والمؤلمة في آن، يعود أيضاً إلى هذا الجدل (ما بعد حداثي، ما بعد كولونيالي)، إلى علاقة الإنسان بالطبيعة عموماً، وبالحيوان على وجه الخصوص. ثمة نقاش فلسفي حادّ انطلق مند عقدَين على الأقلّ، وغذّته جائحة كوفيد – 19، فالعديد من الأوبئة والأمراض ناجمة من هذا التدخّل السافر والفجّ بين الطبيعة والاعتداء عليها. إن استعباد البشر للحيوان والفتك به إشباعاً لنهم الإنسان "الحداثي" هو بعض من ثأرٍ تتولّاه الفيروسات والأمراض دفاعاً عن معذّبي الأرض، وهم الحيوانات والأعشاب وغيرهما من الكائنات الحيّة. حرصت العديد من المنظّمات والجمعيات التي تدافع عن هؤلاء المسحوقين على تعديل التشريعات "الإنسانية"، لتكون حيوانية بالمعنى النبيل للكلمة، حتى إن بعض المشرّعين جعلوا أخيراً من الأودية والغابات والحيوانات ضحايا يمكن لها أن تتظلم لدى القضاء العادل طلباً لوضع حدّ لحروب الإبادة المرتكبة في حقّها. أثبت الذكاء الاصطناعي قدرة فائقة في إدارة الاقتصاد السياسي للعواطف الجيّاشة
تشير أخبارٌ عديدة مُتناقَلة، إثر النهاية الحزينة لجسيكا لقمة سائغة في فم الحوت، إلى أنها قد ألحّت قبل الصعود إلى الحلبة على مدير السيرك لإلغاء العرض، أو على الأقلّ تأجيله. وقد لاحظت أن الحوت مضطربٌ ومتشنّجٌ، وميّالٌ إلى التمرّد، خصوصاً أن "طقوس العرض" تقتضي تجويع الأوركا حتى يبدو جائعاً دليلاً مقبلاً على تنفيذ كلّ أوامر سيّدته من أجل الفوز بسمكة يلتهمها مكافئة له. غير أن المدير رفض الطلب طمعاً في مرابح يجنيها، وقد كان الإقبال يومئذ على اقتناء التذاكر كبيراً. إنها شهوة الربح التي دمّرت كلّ شيء طبيعي جميل، وأسرته في فضاء عرض تجاري سخيف. يثأر حوت الأوركا نيابة عن الطبيعة وعن الحيوانات التي أبيدت على يد بشر فقدوا إنسانيتهم مقابل ذلك. وككلّ الملاحم، دفعت جسيكا نيابة عنّا جميعاً (نحن البشر) ثمن الخطيئة القاتلة. قد يقول بعضهم لقد غدر بها الحوت، ولكن بعضهم الآخر يقول أيضاً لقد أسره جوعه وإهانته، وشوّهتاه، وحقّ له أن يدافع عن نفسه… حين تتغيّر حواسنا سيغدو للعالم معنى آخر.
العربي الجديد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.