بات في إمكان العالم أن يتنفس الصعداء قليلاً، إذ يبدو أنه لن تكون هناك حرب – في الأقل خلال الوقت الراهن – بين أكبر اقتصادين في العالم. فقد بدا الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الصيني شي جينبينغ راضيين وهما يتبادلان مصافحة مطولة أمام عدسات الكاميرات، قبيل اجتماعهما داخل مدينة بوسان الساحلية في كوريا الجنوبية. وكعادته في المبالغة، وصف ترمب اللقاء بأنه "نجاح باهر" ومنحه تقييماً "12 من 10″، بينما كان شي أكثر تحفظاً، متحدثاً عن "توافق في الآراء" بين الجانبين، ومعرباً عن أمله في بناء شراكة مستقبلية، مع إقراره خلال الوقت ذاته بأن الخلافات لا تزال قائمة. تشير التفاصيل إلى أن الصين قررت إرجاء تطبيق القيود التي أعلنتها على تصدير المعادن النادرة، في حين وافق ترمب على تأجيل فرض الرسوم العقابية بنسبة 100 في المئة، وتخفيف الرسوم الجمركية على بعض السلع التي ترى واشنطن أنها تدخل ضمن سلسلة توريد مادة الفنتانيل (تستخدم لعلاج الآلام الشديدة، وهي أقوى من المورفين ب50 إلى 100 مرة). وتعهدت بكين بزيادة وارداتها من المنتجات الزراعية الأميركية. ويبدو أن المحادثات ركزت على القضايا الاقتصادية الثنائية الأكثر إلحاحاً، فيما تم تجنب التطرق إلى موقف الصين من روسيا والحرب في أوكرانيا، أو نياتها تجاه تايوان – وهي القضية الأمنية الأشد حساسية في العلاقات بين البلدين – باعتبارها ملفات معقدة للغاية يصعب تناولها في هذا اللقاء. لكن حتى هذا القدر المحدود من التقدم ليس بالأمر الهين. فانعقاد الاجتماع لم يكن مضموناً أساساً، وعلى رغم أن نتائجه أقرب إلى هدنة موقتة منها إلى اختراق حقيقي، فإن الاتفاق على مواصلة الحوار يعد بحد ذاته تطوراً إيجاباً. قد تعكس بعض الانتقادات، ليس فقط المبالغة في التوقعات، بل أيضاً عجز الدبلوماسيين والسياسيين – وحتى وسائل الإعلام – عن التكيف مع الطريقة التي يتعامل بها ترمب مع "العالم الخارجي". وربما آن الأوان للاعتياد على عالم يلتقي فيه القادة الأقوياء ويتبادلون الحديث مباشرة، من دون كل تلك النقاط والفواصل التي تملأ بها البيانات المشتركة، أو الجداول الدقيقة التي تعد مسبقاً عبر اجتماعات تمهيدية مطولة. ولا شك أن في هذا الأسلوب أخطاراً حقيقية، واتضح ذلك جلياً في ضمن الكارثي الذي تحول إلى فخ سياسي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي [أثناء لقائه ترمب ونائبه جي دي فانس خلال فبراير الماضي). ومع ذلك، كان هذا أول لقاء بين ترمب وشي منذ عام 2019، وهي فترة شهدت تغيرات كبرى تجعل من المنطقي وصف الاجتماع بأنه تمهيدي أكثر منه قمة حاسمة. وبذلك، أسهم في إضفاء قدر من الاستقرار على مسار العلاقات الأميركية – الصينية، وعلى النظام التجاري الدولي، بقدر ما تسمح به نزعة ترمب الحمائية ومعاركه القضائية المتواصلة في الداخل الأميركي. على أية حال، لا يقل السياق الإقليمي أهمية عن النتائج نفسها. فعندما حط ترمب رحاله في كوريا الجنوبية، كان في ختام جولة ربما كانت الأكثر كثافة وتنوعاً في وجهاتها بين جميع الرحلات التي قام بها أي رئيس أميركي خلال الأعوام الأخيرة. فقد تضمنت جولته توقفاً في قطر لتقييم التقدم الذي أُحرز ضمن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ومحطة لمدة يوم في ماليزيا، شهدت توقيع اتفاقات تجارية مع دول منها فيتنام، والإعلان (مع رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم) عما وصف بأنه اتفاق سلام لإنهاء الأعمال العدائية بين كمبوديا وتايلاند، إضافة إلى مشاركته في القمة السنوية ل"رابطة دول جنوب شرقي آسيا" (ASEAN)، التي استضافتها ماليزيا للمرة الأولى منذ نحو عقدين. ثم توجه إلى اليابان، إذ التقى رئيسة الوزراء الجديدة ساناي تاكايتشي، وناقش – كما هي الحال في سائر المحطات – قضايا الرسوم الجمركية والتجارة، مع التطرق إلى ملف أمن المحيط الهادئ. ..الأزمة الأميركية الصينية المرتقبة إلا أن المحطة الأخيرة من رحلة الرئيس الأميركي – المتمثلة في اللقاء مع الرئيس الصيني، قبيل انعقاد قمة دول "التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ" (APEC) – كانت الأكثر ترقباً على الإطلاق. فقد ساد شعور واسع بأن مصير النظام التجاري العالمي، إن لم يكن السلام العالمي نفسه، قد يكون على المحك، وسط مخاوف من أن يؤدي الطابع المتقلب لترمب، إلى جانب احتمال تصلب موقف شي جينبينغ، إلى مزيد من التدهور في العلاقات الثنائية. ولحسن الحظ، لم يحدث ذلك. غير أن هذا لا يعني أن العلاقات الأميركية – الصينية تسير اليوم على نحو سلس أو خال من التحديات، حتى في الجوانب الاقتصادية والتجارية. وتصادف أنني كنت في العاصمة الماليزية كوالالمبور أثناء مشاركة ترمب في قمة رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان)، وهناك لفت انتباهي أمران يقدمان مؤشراً واضحاً – إن لم يكن لما قد يحدث قريباً، فعلى الاتجاهات الأبعد مدى في توازنات المنطقة. منذ بداية ولايته الثانية، فرض ترمب حضوره على المسرح الدولي على نحو لم يسبقه إليه سوى قلة من القادة. مع ذلك، لم تكن زيارته حدثاً طاغياً أو محوراً للضجيج الإعلامي كما يحدث في الغرب. والأمر نفسه ينطبق على التوقعات التي أحاطت بلقاء ترمب مع شي جينبينغ. من زاوية النظر الآسيوية، يبدو ترمب أقل حجماً وأضعف تأثيراً مما يبدو عليه داخل الولاياتالمتحدة. فهذه المنطقة من العالم تزخر بالحيوية والنشاط وتدار وفق قيم غير غربية – بل يمكن القول إنها "ترمبية" الطابع في نزعتها التجارية المركنتيلية – وسط شعور متنام بأنها تتجه تدريجاً نحو الصين باعتبارها القوة المهيمنة الجديدة، أو بالأحرى القديمة التي استعادت مكانتها. وهنا، لا تمنح الأولوية للانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، بل لتجنب الصدام وحماية الاستقرار. في المقابل، تسود في المنطقة مخاوف من أن سلسلة الاتفاقات التجارية التي أبرمها ترمب مع فيتناموكمبودياوماليزيا وتايلاند ليست سوى محاولة لفرملة النفوذ الاقتصادي الصيني المتسارع. ونظر إلى زيارتيه لكل من اليابانوكوريا الجنوبية – وهما من أقدم حلفاء واشنطن – من زاوية أمنية أكثر منها تجارية. في حين رأى آخرون في حضوره العابر خلال قمة آسيان مؤشراً إلى رغبة أميركية في استمالة المنظمة نحو فلك الولاياتالمتحدة والغرب، وإبعادها من سياستها التقليدية القائمة على الموازنة الدقيقة بين القوى الكبرى. في تقديري، تتمحور أولويات ترمب حول التجارة، لا بوصفها هدفاً اقتصادياً فحسب، بل باعتبارها أيضاً وسيلة لتجنب النزاعات. فهو يدرك أن دول جنوب شرقي آسيا تملك إمكانات كبيرة تخدم هذين الهدفين معاً [النمو الاقتصادي وتخفيف التوترات الجيوسياسية]. ويرى أن أفضل سبيل لذلك هو إبرام صفقات مع الصين تضمن منافسة سلمية في منطقة المحيط الهادئ، ولكن وفق الشروط التي تمليها الولاياتالمتحدة. وهنا تكمن المعضلة، إذ سيظهر مدى تعقيدها عندما تبدأ المفاوضات التجارية المنتظرة بين الجانبين بالتقدم فعلياً. أندبندنت عربية