يجب التنسيق بين القطاعات الوزارية والهيئات ذات الصلة    متابعات قضائية في حالة التشهير والاستغلال الإعلامي للقصر    جيشنا هو الدرع الواقي للوطن وضامن وحدته وسيادته واستقلاله    بوغالي يستقبل سفير الصين    14 ولاية ساحلية معنية بمخطط خاص بالرقابة و التموين    نفط: ارتفاع الأسعار بقرابة واحد بالمئة    نسعى لتشجيع الابتكار وعصرنة تربية الماشية النادرة    مواطن يشكو اتصالات الجزائر    مستشفى الأمل في غزة أصبح عمليا خارج الخدمة    هل أمريكا شيء وإسرائيل شيء آخر؟    يقترح أيضا تسليط عقوبة الإعدام في جرائم المخدرات    هؤلاء سبقوا آيت نوري إلى السيتي    بوقرة يعترف..    الجزائر العاصمة: توقيف 14 شخصا ينشطون ضمن شبكات إجرامية    حوادث الطرقات : وفاة 7 أشخاص وإصابة 212 آخرين بجروح    طقس : موجة حر على عدة ولايات    عودة أول فوج للحجاج الجزائريين إلى أرض الوطن    تقييمات تعويضية للمتغيبين عن امتحان تقييم المكتسبات    صعودنا مستحَق بفضل مجهودات الجميع    "الشلفاوة" يستهدفون نقاط البقاء    إشادة بدور الجزائر في دفع التعاون القاري    إلغاء مقررات الاستفادة من العقار لأصحاب المشاريع غير الجاهزة    "قافلة الصمود" ترجمة لعمق تضامن الجزائر مع فلسطين    جمع 295 شهادة لمجاهدين عايشوا أحداث الثورة    الفنانة التشكيلية نورة علي طلحة تعرض أعمالها بالجزائر العاصمة    توظيف تجربة الجزائر الرّائدة لتوفير الخدمات الأساسية    الاستفادة من تجربة هيئة الدواء المصرية في مجال التنظيم    الجزائر تودع ملف رفع حصة حجاجها وتنتظر الرد    فرط النشاط وتشتّت الانتباه يجمع الأولياء والمختصين    تقنيات جراحية حديثة لمعالجة أمراض الرجال    النقش على الفضة والنحاس انعكاس لتاريخ المنطقة    كرة القدم/ مباراة ودية: المنتخب الجزائري ينهزم أمام نظيره السويدي 4-3    المحاربون بوجه مشرف في الشوط الثاني    مجلة "آفاق سينمائية" : إبراز دور السينما الجزائرية في فضح الاستعمار الفرنسي    نفذتها "منظمة الجيش السري" للاستعمار الفرنسي:حرق مكتبة الجامعة المركزية عام 1962 جريمة ضد الفكر والإنسانية    ضبط مواقيت عمل المؤسسات البريدية خلال الصيف    كمائن الموت تتواصل ضد الأبرياء بغزّة    تعيين سفراء الجزائر بكازاخستان والسلفادور وروسيا    تحديد وزن الأمتعة المسموح به للحجاج خلال العودة    حيداوي يدعو الجمعيات الشبانية للانفتاح على شراكات محلية ووطنية    العدوان الصهيوني: الهجوم على سفينة "مادلين" جزء من الإبادة الجماعية    مجلس الأمن:البوليساريو تدحض ادعاءات ممثل دولة الاحتلال المغربي    جمع جلود الأضاحي, أداة لدفع عجلة تطوير الصناعة الوطنية للجلود    مجلس الأمة: السيد بوجمعة يبرز أهمية الرقمنة بقطاع العدالة    العروض الوطنية للفيلم السينمائي "محطة عين لحجر" تتواصل عبر عدة ولايات    البرتغال تُتوّج بدوري الأمم الأوروبية    هذا آخر أجل لتحميل الملفات    حجز قرابة 1.5 مليون قرص مهلوس بباتنة    العدوان الصهيوني على غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 54981 شهيدا و126920 مصابا    تكريس لإرادة سياسية واضحة لحماية "ذاكرة وطن"    تنظيم عودة أول فوج للحجاج الجزائريين إلى أرض الوطن    تتويج سيليا العاطب سفيرةً للثقافة الإفريقية 2025    "التطور الحضاري لمدينة تلمسان" محور يوم دراسي    لماذا سميت أيام التشريق بهذا الاسم    توسعة الحرم المكي: انجاز تاريخي لخدمة الحجاج والمعتمرين    ويلٌ لمن خذل غزّة..    هذه أفضل أعمال العشر الأوائل من ذي الحجة    عيد الأضحى المبارك سيكون يوم الجمعة 06 جوان 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحلام مستغانمي، بومدين، عبد الناصر، عبد الكريم قاسم و.. أنا
نشر في المساء يوم 27 - 09 - 2023

عندما اشتريت كتاب أحلام مستغانمي الأخير "أصبحتُ أنت" (بضم التاء الأولى) لم أكن أتصور أنني سأسترجع معه سنوات وسنوات من ذكرياتٍ أشعلت أحلام فتيلها بكتاب أنيق تجاوزت صفحاته الثلاثمائة.
الكتاب أساسا هو قصيدة حنينِ أديبةٍ لأبيها المجاهد المتوفى، وهو يبدأ بجملة تهز المشاعر بقسوة لا مثيل لها، إذ تتوجه الشاعرة بعد إهداء الكتاب لأبيها بجملة صاعقة تقول: "ما جدوى ما أكتب ما دام ليس في المقابر مكتبات ليقرأني أبي".
لكن الطابع الأدبي هو في الواقع جبل الثلج الذي يخفي في الأعماق ما هو أضخم منه حجما وتأثيرا وشجونا، حتى لكأنه طبق "أوردوفر" فاخر في مطعم باريسي عريق، تجد فيه شيئا من كل شيء، هو سيمفونية يؤديها عشرات العازفين، تقدم كل مجموعة منهم لحنا يختلف عن لحن الآخرين لكنه يتكامل معه.
والكتاب أكبر من مرثية تخاطب فيها الشاعرة أباها ( سي الشريف) وتسترجع ذكرياتها معه وتسجل مواقفه معها وتشجيعه لها ودفاعه عنها، وهو ما يمكن أن يستنتجه القارئ من العنوان الذي اختارته أحلام لآخر إنتاجها الأدبي، وعبرت عنه بقولها: "اليُتمُ هو أن تُخطئ ولا يُصحّح لك أحد".
وسيفاجأ قارئ الكتاب وهو يلتهم السطور بأن هذه تفرض عليه أن يستعيد قراءتها أكثر من مرة، لأنه سيحس بأن أحلام هي "شهر زادٍ" معاصرة تروي له مشاعرها وجها لوجه، حتى لكأنه يشعر بأنفاسها تصطدم مع أنفاسه، وبيدها تهزه إذا ذهب بعيدا في أفكاره وهو يتخيل أبعاد ما يلتقطه من سطور تنتقل به من استذكار عواطف الأبوة إلى استعراض وقفات تاريخية إلى تسجيل مواقف فكرية، وهكذا لا يشعر القارئ بأنه يسير في طريق طويل مُمْلّ تتشابه جوانبه ومعالمه.
والواقع أن أحلام استطاعت أن تكون ديبلوماسية أدبية متألقة للجزائر المستقلة في المشرق العربي، ولدرجة أدهشت من كانوا يتغرغرون بأن الجزائريين لا يتقنون اللغة العربية، بل ولدرجة أشعلت غيرة كثيراتٍ أصبن بعقدة "أحلام" عندما فشلن في أن يكون لهن نفس البريق الأدبي ونفس الوجود الإعلامي، برغم أنها في بلاد الغربة.
وكان لذلك التألق ثمن تقول عنه أحلام : "اكتشفت ألاّ أقسى من غربة اللغة إلا غربة المسافات"، ثم تقول:"حقيقة الكاتب تكمن فيما محاه لا فيما كتبه"، والذين يكتبون في المراحل الصعبة المعقدة هم من يفهمون خلفية هذه الكلمات، وتروي في هذا مقولة "لاروشفوكو" (فرانسوا السادس): كلما اشتد بغضنا صرنا أدنى ممن نبغضهم"، لكنه هو القائل أيضا : "نحن نغفر ما دمنا نحب".
وفي لقطات برقية سريعة تخرج أحلام عن طريق حديثها لتستذكر عددا من رجالات الجزائر، وتذكر بعبد الحميد مهري ومقولته الخالدة: "لكل زمن رجاله وللرداءة ناسها" (حسب الصيغة التي قدمتها) ثم تتوقف لحظات عند الرئيس الأول للجمهورية، أحمد بن بلة، ولا يحول تعاطفها معه من أن تقول عنه: "كان مسكونا بحماس المنتصرين وربما أيضا بتهورهم"، ثم تسترجع مقولة أبيها وهو يقول عنه: "لم يكن يملك من السلطة دهاءها بل فقط شهيتها".
وبنفس الأسلوب البرقي الخاطف والخروج عن المسيرة المنطقية للمرثية، تذكر بالفيلسوف الجزائري مالك بنابي، ولا تنسى تسجيل كلمات تعاطفٍ محتشمة تجاه الشهيد عبد القادر حشاني، القائد الإسلامي الحكيم الذي اغتيل في ظروف غامضة، خلال العشرية الحمراء.
وتؤكد ابنة قسنطينة منطلقها الوطني فتذكر بالمجازر الفرنسية التي لم تطُل العباد والبلاد فقط بل تجاوزت ذلك إلى الكتب التي استولت عليها القوات الفرنسية من عاصمة الشرق الجزائري الثقافية، بعد أن وقف جنود الاستعمار لمدة سبع سنوات عاجزين عن اختراق أسوار مدينة الجسور المعلقة، فانتقموا حتى من الكتب، وهكذا اقتحم الجنود كل مكان توجد به المجلدات والمخطوطات، بما في ذلك بيوت المواطنين، حيث تروي أحلام بأن عائلات كثيرة لم تخلع إلى اليوم ثياب الحداد على مكتبات أجدادها التي نهبها من كانوا أسوأ من التتار(ص68).
وسجلت أحلام، كأبناء وطنها، وفاءها لعبد الحليم حافظ، فتقول (ص132) في أول عيد للاستقلال (1963) وقف عبد الحليم ممسكا بيد الرئيس "بن بله" وبيد "تشي غيفارا" وهو يُنشِد: "قضبان حديد اتكسّرت، والشمس طلعت نوّرت أرض البطولة، أرض العروبة، أرض الجزائر".
وتعود أحلام لتأكيد مشاعرها الوطنية فتُسجّلُ، في مجال الحديث عن الكُتاب، أنه فكتور هوغو ارتكب خطيئة لا تغتفر.. ضميره لم تهزه معاناة الشعب الجزائري، وكان يؤمن بالدور الاستعماري "الحضاري" (المزعوم) الذي قادته فرنسا.
وتستعرض أحلام بالكثير من المرارة موقف واحد من "شيوخ" الكتابة معها خلال الحفل الذي أقامة الرئيس هواري بو مدين على شرف الأدباء العرب في منتصف السبعينيات، وتروي ما حدث قائلة (ص 247) جاءني ليقول لي: عليكِ أن تغادري القاعة، لا نريدك هنا.
وتواصل قائلة: "كانت صدمتي كبيرة، تجمدت في مكاني، اغرورقت عيناي بالدموع، ولم أجد كلمات أردّ بها، وقبل أن أهمّ بالمغادرة إذا بالدكتور محيي الدين عميمور، المستشار الإعلامي للرئيس، يوقفني وهو يقول: الرئيس يسأل عنكِ.... سألني: أين شاعرتنا؟، قلت له: لست شاعرة وأنا على أهبة المغادرة، قال:كيف ذلك، الرئيس يقرأ لك، وإن واصلت الكتابة على هذا الخط سيكون لك مستقبل باهر".
وبأسلوبها الأدبي الخاص تروي أحلام مستغانمي ذلك في سطور احتضنتها جريدة الشعب في 29 ديسمبر 2013 فتقول: "كان لبومدين حضورٌ بهيّ ومُربك، فهو لا يشبه في شيء الرجل حادّ الملامح الذي كنا نراه على التلفزيون بالأسود والأبيض، كان فيه كثير من وسامة الوقار، وشيء من شموخ رجال يدركون أنهم يصنعون التاريخ في كلّ لحظة، حتى بصمتِهم".
وتواصل الأديبة بأسلوبها الخاص قائلة: صافحني (الرئيس) بحرارة تفوق بقليل سلامه على الأخريات، وعندما أبدى لمستشاره الدكتور عميمور إعجابه بما أكتب "شعرت بأنه رفعني إلى قامته الوطنيّة، وبرغم أنه غلّف كلماته بابتسامته تلك، فقد أربكني بذلك القليل من الكلام، وبيدٍ تباطأت في يدي، وكأنها تُودِعُني شيئاً، ودخلتُ في حالة صمت".
ثم تقول عن الرئيس بعد موته بأكثر من أربعين عاما: "ندمت بعد رحيله، لأني عن كبرياء وكراهية للتملق ما كتبت عنه في حياته ما كان سيسعده (..) لقد هزمني عنفوانه ونزاهته، فقد أحب الجزائر بدون مقابل، وغادرها وليس له فيها بيت سوى في قلوب الجزائريين (..) كان أفقر رئيس عرفته الجزائر، وربما كان هو وجمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم أكثر الحكام ترفعا عن الكماليات ممن عرفتهم الأمة العربية" (- ص206).
هذا الأسلوب الرائع الذي تجلي في "أصبحتُ أنت" هو الذي جعل من قراءة أحلام مستغانمي سبيكة من اللذة والفائدة التاريخية والثقافية، بأسلوب أعترف بأنني أغار منه لأنني لا أستطيع تقليده.
ملحوظة: تعمدت أن أذكر بأنني اشتريت الكتاب حتى لا يعتبر البعض أن هذه السطور القليلة هي مجرد شكرٍ مجاملٍ لأحلام، وأعترف أنني لم أستطع التخلص من القراءة السياسية للكتاب، الذي يستحق أكثر من هذه السطور حجما وتوسعا وثراء.
ولقد اختصرت حديثي تخفيفا على القارئ وترغيبا له في قراءة الكتاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.