أصبح التسابق محموما بين الدكاكين الفضائية الطحلبية في المشرق كما في المغرب، ليس من أجل إعادة جمال اللغة العربية الموءود، ولا بغية استرجاع ضيائها الذي أطفأه السياسيون الهواة، ولكن بهدف تكسيرها واستبدال سلامتها وفصاحتها، بدارجةٍ ركيكةٍ سُوقيّة تخدش الحياء العام، فإذا ما عجزت استعار الموظفون في تلك الدكاكين من القاموس الفصيح ما يحتاجونه، وبعد تحطيمه يعيدون به تلويث الجملة العربية السليمة، التي تفهمها كل الأمة التي تئن ما بين المُحيطيْن، وكأن الأرقام التي تفاخر بها حكومات تلك الجغرافيا المُتعَبة في مجال التعليم والتكوين بمختلف أطواره، ليست إلا حديثًا من أحاديث الاستهلاك السياسي، وقد تكون الوسائل السمعية البصرية في الجزائر، خاصة تلك التي تعمل تحت جُنْح قانونٍ أجنبي، تعبث من خلاله بالواقع الجزائري، خطرًا كبيرا على اللغة العربية، من حيث سلامتُها وتعميمها وفاعليتها، مع أن ذلك ربما يرجع فقط، إلى كسَلٍ يصيب العاملين في تلك الأجهزة، وإلى التخلِّي عن المسئولية، من طرف الذين يعنيهم الأمر، سواء كانوا وِصاية أو سياسيين، ولكن النتيجة واحدة مؤلمة، حيث يتم- على مرأى الجميع- إفساد اللسان، والعبث بالصوت والصورة، وتشويه الممارسة الإعلامية، وهي مقدِّمة لاغتيال الجزائر الحرة الجديدة. إذا كان بعض الوزراء، ومعهم بعض مسئولي الدولة الكبار، والكثير مِمَن والاهم، لم يستحوا في مخاطبة شعبهم باللغة الفرنسية، وقد جعلوها لغة التواصل الأولى والوحيدة، حتى مع الوفود الأجنبية من غير الفرنسيين، في الوطن وخارجه، وكأنهم في مقاطعة باريسية، وهم يتلذّذون برطانة تجعلهم يتمتّعون، كما يتمتّع »مَن تعرّض للاغتصاب، واكتشف أن الأمر وافق رغبته« على حدّ تعبير الصحافيّ الجزائري المُهجَّر لعياشي دراجي، فإن التلفزيونات العاملة في الجزائر، سواء كانت عمومية أو خاصة، كان عليها أن تستحي، وتترفَّع عن ممارسة القُبْح اللغوي، الذي أصبح علامة مميّزة لها، من دون تلفزيونات العالم، وذلك لسببيْن أساسييْن على الأقل، من حيث الإخلالُ بالقانون، وتجاوزُ قواعد الاحتراف والمهنية : 1- أن اللغة العربية، هي اللغة الوطنية الأولى والرسمية، ومَن مسّها فإنما يكون مسَّ مادة دستورية تُشبِه المُقدَّس، إلا إذا كان هؤلاء المُروِّجون لهذا القُبح اللّغوي، ينتسبون إلى فريق ما يُسمَّى بدعاة تحطيم الطابوهات، التي ما زالت وحدها تمسك الأمة من أن ينفرد عِقدُها . 2- أن منهجية الاحتراف في المجال السمعي البصري، تفرض على كل قناة تبث بلغةٍ مُعيّنة، أن تكون جميع برامجها، بلغة بثها وحدها، وإذا ما ارتضى أحد ضيوفها أن يتحدّث بغيرها، لجهلٍ بها، أو لاستلاب ثقافي، أو تطرُّفٍ لغوي، أو انسلاخٍ حضاري، فما على تلك القناة، إلا أن تقوم بدبلجة ما يقوله ضيفُها أو تُترجِمَه، احترامًا لجمهورها، كما تفعل آلاف القنوات العالمية العاملة . لا أدري كيف يجتهد الجزائريون في تهديم رموز القمع الفرنسي، وهو الشاهد المادي الوحيد الباقي مع الزمن، في وقتٍ يُعزِّزون فيه رمز قمعهم المعنوي الأكبر، الذي يُذيبهم في الآخر، بعدما استعصى عليه ذلك، مدة قرْنٍ واثنيْن وثلاثين عامًا، بل جعلهم هذا السلوك غير السّويّ، يُخرِّبون كل تفكير جاد، من أجل إعداد إستراتيجيةٍ وطنيةٍ ناجعة، لتعلُّم اللغات الأجنبية، صحيح أن البعض من الجزائريين، أصبح يُجاهر بخدشه المُتعمَّد لعناصر الهُويّة الوطنية، فيقول مثلا إن الفرنسية هي أحد مُكوِّناتها، ويجد هذا البعض دعْمًا ومُؤازرة من قِلّةٍ تعلمت بالفرنسية، واعتبرتها »مُستعمرَتَها الجميلة«، وقد أعماها استعمارُها، عن التفريق بين حاجة المجتمع إلى تعلّم أكثر من لغة، وبين أن تبتلع لغة المحتل، اللغة الوطنية المُوَحِّدة، وراحوا يرافعون من أجل تعميمها، حتى في أبسط المعاملات، ولكن الأصح والأصوب، ألا تكون هذه الوسائل الإعلامية، أداة أخرى في يد هؤلاء، من أجل ضرْب اللغة الوطنية التي تُدرَّس بها المعارف والعلوم، من التحضيري إلى ما بعد التدرّج، فتُقصَى من الحياة العملية وتُشوَّه، وهو ما قد يؤدِّي إلى انهيارها من الوجدان والتفكير، ولعل ذلك ما بدا يتشكّل فعلا، بسقوط الحديث في جُلِّ أفواه المُتكلِّمين، حتى لو كانوا خرِّيجي جامعة، أو ممن ينتسبون إليها . لو كان ما تقوم به في الجزائر، الفضائيات »الشرعية« وتلك »اللقيطة« حسب وصف الزميل سعد بوعقبة، من خلْقِ لغةٍ خُنثَى في برامجها، عملا مهنيًّا سليمًا، لكانت كل تلفزيونات الاتحاد الأوروبي- وهو التّجمّع الاقتصادي واللغوي والتاريخي المُخْتلِف- أوْلى باستعمال كل لغاته في القناة الواحدة، وفي البرنامج الواحد، ولكنه لم يفعل، لأن قادة دوله ساسة حقيقيون، ومسئولي وسائله الإعلامية، جاءت بهم كفاءتهم لتسييرها، ولم يأتِ بهم الولاء لمن يحكم، وصحافييها محترفون اختاروا مهنتهم، ولم يأتوها صدفة أو دخلوها بعدما سُدّت في وجوههم أبواب الرزق الأخرى، أعتقد أن بقايا النظام الكولونيالي في الجزائر، والذين تحوّلوا مع الزمن، إلى طَمْيٍ أعاق سير الدولة الوطنية، وكاد يُغرِق الجميع فيه، هم الذين يمنعون كل إرادةٍ تعمل على جعْلِ اللغة العربية الجامعة، لغة للحياة تنمو وتزدهر، مع تطوّر وسائل تكنولوجيات الإعلام والاتصال، فهل ننتظر أن يأتينا خبر نهضتها من الصينيين، الذين دعاهم مَن جعلته الجزائر المُتأزِّمَة »رجل أعمال كبيرا« يدعوهم إليها، للاستثمار في كل شي بها، حتى في حرائرها، فهؤلاء الصينيون، يبدو أنهم يريدون تصحيح مسار قطار اللغة عندنا، فقد فتحوا ورشات بالعربية في بلادهم، لفائدة إطارات وزارة الداخلية والجماعات المحلية، حول كيفية تسيير الإدارة الحديثة الناجحة، فقد يعيدون لنا ألسنتنا التي لوّثها لنا سفهاؤنا، وكادوا يُضيِّعونها...