شهد التاريخ البشري قصص نجاحات تلهم كثيرين، ولعل أكثر هذه القصص تأثيرا تلك التي تتعلق بأشخاص عانوا من صعوبات لكنهم تحدوها ووقفوا أمام كل المعوقات التي واجهوها، لأنهم يؤمنون بأنهم يستطيعون تحقيق أفضل الإنجازات، وهذا ما أثبتته قصص لبعض هؤلاء الأشخاص الذين تركوا أثرا كبيرا على الحياة رغم إعاقاتهم المختلفة. إنه الصحابي الكريم عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين اختارهم عمر ليخلفوه في إمارة المؤمنين، وكان أغنى أغنياء الصحابة، جاهد عبد الرحمن رضي الله عنه في موقعة أُحد، وأصيب فيها بعشرين جرحا ترك أحدها في ساقه عرجا دائما، وسقطت بعض أسنانه فتركت أثرا واضحا في نطقه وحديثه. ولد الصحابي عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي بعد عام الفيل بعشر سنين، وكان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده، ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال: "أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله، ثلث يقرضهم، وثلث يقضى عنهم ديونهم، وثلث يصلهم ويعطيهم". وكان ابن عوف أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، عرض عليه أبو بكر الإسلام فما غُمَّ عليه الأمر ولا أبطأ، بل سارع إلى الرسول يبايعه، وفور إسلامه حمل حظه من اضطهاد المشركين، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية، كما هاجر إلى المدينة مع المسلمين، فأصيب يوم أُحُد بعشرين جرحا إحداها تركت عرجا دائما في ساقه، كما سقطت بعض ثناياه فتركت هتما واضحا في نطقه وحديثه. كان -رضي الله عنه- محظوظا بالتجارة إلى حد أثار عَجَبه فقال: لقد رأيتني لو رفعت حجرا لوجدت تحته فضة وذهبا، وكانت تجارة عبد الرحمن بن عوف ليست له وحده، وإنما لله والمسلمين حق فيها، فقد سمع الرسول يقول يوما (يا ابن عوف إنك من الأغنياء، وإنك ستدخل الجنة حَبْوا، فأقرض الله يُطلق لك قدميك)، ومنذ ذاك الحين وهو يقرض الله قرضا حسنا، فيضاعفه الله له أضعافا، فقد باع يوما أرضا بأربعين ألف دينار فرّقها جميعا على أهله من بنى زُهرة وأمهات المسلمين وفقراء المسلمين، وقدّم خمسمائة فرس لجيوش الإسلام، ويوما آخر ألفا وخمسمائة راحلة. وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأربعمائة دينار لكل من بقي ممن شهدوا بدرا حتى وصل للخليفة عثمان نصيب من الوصية فأخذها وقال (إن مال عبد الرحمن حلال صَفْو، وإن الطُعْمَة منه عافية وبركة). وفي أحد الأيام اقترب على المدينة ريح تهب قادمة إليها حسبها الناس عاصفة تثير الرمال، لكن سرعان ما تبين أنها قافلة كبيرة موقَرة الأحمال تزحم المدينة وترجَّها رجّا، وسألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ما هذا الذي يحدث في المدينة ؟، وأُجيبت أنها قافلة لعبد الرحمن بن عوف أتت من الشام تحمل تجارة له، فَعَجِبَت أم المؤمنين قافلة: تحدث كل هذه الرجّة؟، فقالوا لها: أجل يا أم المؤمنين، إنها سبعمائة راحلة، وهزّت أم المؤمنين رأسها وتذكرت، أما أني سمعت رسول الله يقول: رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حَبْوا، ووصلت هذه الكلمات إلى عبد الرحمن بن عوف، فتذكر أنه سمع هذا الحديث من النبي أكثر من مرة، فحثَّ خُطاه إلى السيدة عائشة، وقال لها (لقد ذكَّرتني بحديث لم أنسه)، ثم قال: أما إني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها وأقتابها وأحْلاسِها في سبيل الله، ووزِّعَت حُمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها. ثراء عبد الرحمن بن عوف كان مصدر إزعاج له وخوف، فقد جيء له يوما بطعام الإفطار وكان صائما، فلما وقعت عليه عيناه فقد شهيته وبكى ثم قال: استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني فكُفّن في بردة إن غطّت رأسه بدت رجلاه، وإن غطّت رجلاه بدا رأسه، واستشهد حمزة وهو خير منى، فلم يوجد له ما يُكَفّن فيه إلا بردة، ثم بُسِطَ لنا في الدنيا ما بُسط، وأعطينا منها ما أعطينا، وإني لأخشى أن نكون قد عُجّلت لنا حسناتنا، كما وضع الطعام أمامه يوما وهو جالس مع أصحابه فبكى، وسألوه ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: لقد مات رسول الله وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ما أرانا أخّرنا لما هو خير لنا، وخوفه هذا جعل الكبر لا يعرف له طريقا، فقد قيل إنه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أن يميزه من بينهم. ولما تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الخلافة سنة (13 ه)، بعث عبد الرحمن بن عوف على الحج، فحج بالناس، ولما طعن عمر رضي الله عنه، اختار ستة من الصحابة ليختاروا من بينهم الخليفة، وكان عبد الرحمن بن عوف أحد هؤلاء الستة وكان ذا رأي صائب، ومشورة عاقلة راشدة، فلما اجتمع الستة قال لهم: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة نفر فتنازل كل من الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص فبقي أمر الخلافة بين عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب فقال عبد الرحمن: أيكم يتبرأ من الأمر ويجعل الأمر إلي، ولكن الله على أن لا آلو (أقصر) عن أفضلكم وأخيركم للمسلمين. فقالوا: نعم. ثم اختار عبد الرحمن عثمان بن عفان للخلافة وبايعه فبايعه علي وسائر المسلمين. وتوفي عبد الرحمن رضي الله عنه، سنة (31 ه)، وقيل (32ه) في خلافة عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع.