إن بناء تصور متكامل لمواد البحث يتطلب عناء كبيرا وجهدا مضنيا، كما يتطلب دراية وافية بخصوصية المجال الذي تتفاعل فيه حركة البحث بشكل متصاعد معرفي حتى يستطيع الباحث ترتيب الأوراق وفق المنحنى المناسب. ومن هذه الخصوصية المعرفية انطلق الشيخ الباحث علي نعاس في تتبع آثار التاريخ وشكّل على مرافئ الذاكرة عقدا مستمرا في التوالد تحت عنوان "تنبيه الأحفاد"، مذكرا دائما الخلف بما جاد به السلف من معرفة وعلم وأدب، فكان كتابه الحديث "تنبيه الأحفاد.. للولي الصالح سيدي أحمد بن معطار" والصادر عن منشورات الحياة الصحافة في 205 صفحة ومن القطع المتوسط، خطوة فاعلة في استنهاض روح الكشف وباقة مهمة من باقات الشعر التي تعتبر من محددات الهوية الأدبية بالمنطقة وبعثا حيويا للغة الشعر الشعبي المتعمق في جذور الأصالة الثقافية في مدينة الجلفة، والتي تعتبر أيضا مكمنا مهما من مكامن اللغة والفكر والأدب. وقد استهل الشيخ باستفتاح فيه امتلاك قوي ويقيني بجود الملك القدير مصليا على روح محمد في الأرواح مجددا عهده في صحبة خير الأخيار، كما استهل في المقابل بتقاريظ لبعض الأساتذة والمشايخ الذين تناولوا هذا الكتاب بالمدح والإشادة لعمل يحاول معرفة تراث الأوائل وإنمائه بما يتوجب من تنبيه ووعي بأهميته في إبراز الشخصية العلمية القارئة كالشيخ عبد القادر زياني والدكتور أحمد قنشوبة والدكتور محمد بن بريكة والشيخ محمد الجابري سالت والأستاذ مصطفى شحطة والإمام عبد القادر بن سالم وغيرهم. وقد اشتهر الشيخ أحمد بن معطار بقصائده المميزة في التوحيد ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض المشايخ منهم شيخه المختار والشيخ محمد بن أبي القاسم، وقد حصر قصائده ب 114 قصيدة تيمنا ببركة سور القرآن الكريم كما جاء في مختصر سيرته بين دفتي هذا الكتاب. فقد رأى نور العالم في بادية زاغز بلدية الزعفران بولاية الجلفة، ولم يثبت للشيخ تاريخ ميلاد حقيقي، إلا أن الشيخ محمد الصغير نجل الشيخ المختار ذكره في جملة من تتلمذوا على يد الشيخ المختار في كتابه "تعطير الأكوان"، وقد حفظ الشيخ أحمد بن معطار القرآن الكريم ودرس مبادئ العلوم الإسلامية في زاوية علي بن عمر بطولقة ولاية بسكرة، انتقل بعدها إلى زاوية الشيخ المختار بأولاد جلال ووسّع من معارفه في العلوم الإسلامية، وأخذ عن الشيخ المختار الطريقة الرحمانية وأجازه فيها رفقة الشيخ عبد الرحمان بن سليمان والشيخ الشريف بن الأحرش والشيخ محمد بن أبي القاسم، وقد شرع بعد تخرجه في التدريس، كما عينه (كرها) حاكم مدينة الجلفة بعد أن ذاع صيته قاضيا على المدينة إلا أنه لم يدم طويلا، حيث طلب إعفاءه من هذا المنصب، فتفرغ للعلم والعبادة، وأسس زاوية بعين حواس تقع بالقرب من المدينة، وشرع في التدريس ونشر العلم والمعرفة الإسلامية، إلى أن وافته المنية سنة 1873م. وقد ذكر الشيخ الباحث علي نعاس في مقدمة كتابه هدفه في البحث والتقصي فيما تركه الشيخ الجليل أحمد بن معطار من قصائد في الشعر الشعبي تنم عن فهم واقتدار في المعرفة الروحية والدينية، كما انقسم الكتاب إلى أبواب وعناوين كثيرة نذكر منها: نبذة عن حياة الشيخ سيدي أحمد بن معطار، كيفية قراءة قصائده، نسخة من إجازة الشيخ وخاتمه باعتباره كان قاضيا، كما تعثرُ بين ثناياه على دراسة أدبية للدكتور أحمد قنشوبة يقارن فيها الفرسَ بين الشعر الجاهلي والشعر الشعبي مقدما نموذجه بين امرئ القيس وسيدي أحمد بن معطار، هذه المقاربة الفنية التي تشتغل على تجميع فضاءات عدة في معلم تاريخي نقدي يبين فيه الكاتب النفس الشاعرة وهي تتعاطى الشيء نفسه بين زمنين مختلفين ولغتين متمايزتين، فرأى أن الفرس صورة واضحة الدلالة وعميقة المعنى في قصائد الشيخ أحمد بن معطار التي بالمقابل تحمل هي ومثيلتها عند امرئ القيس معطيات الواقع المتخيل وكذا الواقع الحقيقي المعاش. كما تنوع الكتاب واتسعت فضاءاته أكثر وهو يجوب تلال الشعر الشعبي وهضابه في لغة قريبة بسيطة ممتعة، تخلق جمالياتها الإبداعية في هدوء وسكينة الشيوخ العارفين. ومن بين قصائد الكتاب نذكر: قصيدة شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، "باسم ذي الجلال والنصر" في مدح الشيخ المختار، "قل الله يا غافل عن قول ذكر الله" وهي في مدح الشيخ محمد بن أبي القاسم، كما تضمن الكتاب ملحقا للقصائد منسوخة بخط اليد ومزخرفة زخرفة محلية. ويعتبر الشيخ علي نعاس وهو الدؤوب على متابعة السلف معرفيا، من المشايخ الباحثين في التراث حيث قدم قبل هذا الإصدار كتابه الشهير "تنبيه الأحفاد بمناقب الأجداد" رفقة الشيخ عبد القادر زياني، وقد عرف عن الشيخ علي نعاس امتهانه للعلم والتعليم، فقد ولد سنة 1951م، نشأ في بيت عز وشرف، حفظ ما تيسر من القرآن الكريم على يد معلمه الشيخ أبو التقى بلخيري بمقام جده الشيخ عبد الرحمن النعاس بالجلفة، كما درس على يد الشيخ أحمد خالدي ومحمد خالدي بمسجد الشيخ أحمد بن معطار، وقد التحق بالمدارس الحكومية النظامية بالموازاة مع تمدرسه بمدرسة "الإخلاص" التي أنشأتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ثم أكمل دراسته الثانوية بمدينة المدية، كما التحق بمعهد تكوين الأساتذة ببوزريعة سنة 1972م، تخرج أستاذا في مادة العلوم الطبيعية، وقد عمل مدرسا مدة 32 سنة. كان الشيخ ملازما لمقام جدهبالجلفة وقد أخذ على عاتقه عمارة هذا المقام بالذكر والصلاة والدرس إلى يومنا هذا.