على طريقته في شخصنة الشؤون العامة بصورة مفرطة، وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب العرض العسكري الذي أجرته الصين بمناسبة انعقاد قمة شنغهاي، بأنه "مُصمّم جزئياً كي أشاهده، وقد فعلت". وكان الرئيسان، الروسي فلاديمير بوتين والكوري الشمالي كيم جونغ أون، يقفان بجوار المضيف الرئيس الصيني شي جين بينغ على منصّة العرض العسكري، ما دفع ترامب إلى التعليق بالقول "فهمتُ سبب قيامهم بذلك، وكانوا يأملون بأن أشاهد، وكنت أشاهد". وبطبيعة الحال، كان من المستغرب ألا يتابع ترامب هذا الحدث، غير أن هذه المشاهدة لم تكن بحاجة إلى التصريح عنها، فهي تحصيل حاصل. ومن يسمع سيد البيت الأبيض يكاد يُحلّق خارج الواقع، ويتصوّر أن سباق التسلح بين الدول الكبرى قد وُضع حدٌ له، أو أن المنافسة العسكرية قد أزيحت جانباً، وأن دولاً، مثل الصينوروسيا وكوريا الشمالية، وبخاصة الأولى، قد خرجت عن إجماع دولي بهذا الشأن… إجماع لا وجود له. من الطبيعي ان تتوجّه الرسالة الصينية إلى كل من يعنيه الأمر في العالم، وفي مقدّم هؤلاء الدولة الأقوى عسكرياً، والتي كشفت قبل ثلاثة أسابيع تفاصيل مشروع منظومة الدفاع الصاروخي (القبة الذهبية)، وتتألف من أربع طبقات (واحدة في الفضاء وثلاث على الأرض) إضافة إلى 11 بطارية قصيرة. وتقدّر كلفة المنظومة ب175 مليار دولار. وهو مبلغ فلكي في عيون شعوب الأرض، بمن فيهم الشعب الأميركي. هذا إلى جانب الاندفاع في إنتاج الصواريخ فرط الصوتية، وعسكرة الفضاء، فيما مئات القواعد العسكرية الأميركية في العالم تشهد على أن العسكرة ديدن أميركا ودينها السياسي والاستراتيجي. وقد أضاف ترامب إلى الصراعات حرب الرسوم التجارية في يوليو الماضي التي طاولت الشركاء والأصدقاء، مع بقاء هدفها الأكبر التنين الصيني الذي يتنافس بقوة مع القطب الأميركي في مجال استخدامات الذكاء الاصطناعي وفي التنافس على المعادن النادرة. ولم يجد ترامب وقتاً حتى تاريخه لعقد لقاء قمة مع الرئيس الصيني، بينما اهتبل صديقه بوتين مناسبة اجتماع منظمة شنغهاي للوقوف إلى جانب الرئيس الصيني، وبعد وقت قصير على قمة ألاسكا التي جمعته ببوتين. وبينما يخوض ترامب، بأسلوبه الخاص، في الأمور العامة، يتحدّث الإعلام الأميركي برصانة عما يشكله لقاء منظمة شنغهاي في مدينة تيانجين، وما تبعه من عرض عسكري في العاصمة بكين من تحدٍ للغرب. وكأن الغرب لا يتحدّى أحداً (مع الفوارق الكبيرة بين أوروبا وأميركا لمصلحة الأولى) في بسط النفوذ العسكري والاقتصادي والتكنولوجي. وقد جرى تركيز محطة سي أن أن على مشاركة إيران وميانمار وباكستان في الاجتماع، علماً أن النجم الذي برز في الاجتماع هو الهند التي كان يشوب الفتور علاقاتها بالصين، إلا أن رئيس الوزراء ناريندرا مودي خفّ إلى ذلك الاجتماع، بعدما نجحت الولاياتالمتحدة في إبعاد الهند عنها، وقد فعلت ذلك من قبل مع باكستان… وقد حضرت الأخيرة الاجتماع الأوراسي (الآسيوي الأوروبي) معزّزة علاقاتها القوية مع الصين. وبين أعضاء منظمة شنغهاي ومن يحملون صفة مراقب وشريك في الحوار، وقد شاركت بالمناسبة دول ذات علاقات وثيقة بالولاياتالمتحدة، مثل مصر وتركيا وفيتنام وماليزيا وأندونيسيا، إلى جانب دول لا تتحدّى أحداً، مثل المالديف ونيبال ومنغوليا ولاوس وتركمانستان. وقد أعاد البيان الختامي التذكير بوجهة النظر الصينية الروسية إن العالم يسير نحو تعدّدية قطبية، والدعوة إلى اعتماد مبدأ احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بما من شأنه قطع الطريق على تدخّلات غربية، وإن كان يجري أحيانا استخدام هذا المبدأ السليم لتسويغ قمع الشعوب واحتساب أي اهتمام بأوضاعها الصعبة، من قبيل التدخّل الأجنبي المذموم. وبينما شدّد إعلان تيانجين على التزام الدول الأعضاء بميثاق الأممالمتحدة وبالمبادئ الأخرى المتعارف عليها في القانون الدولي، لا تروق هذه الصيغة التي تبدو بديهية لأميركا الترامبية التي ترى في القفز عن الأممالمتحدة وميثاقها والخروج من عضوية وكالاتها ووقف التمويل حقاً مكتسباً للقوة العظمى، فيما يعدّ هذا خروجاً سافراً على الإحماع الدولي وتحدّياً للأسرة البشرية، وقد أضاف البيان مهمة خاصة للأمم المتحدة بدعوتها إلى أن "تضطلع بدورها التنسيقي المركزي بالكامل من أجل عالم متعدّد الأقطاب أكثر تمثيلا وديمقراطية وعدلا". وربما كانت عبارة من أجل عالم متعدّد الاقطاب زائدة، إذ إن تمثيل الدول بصورة أكثر عدالة وديمقراطية وعدلاً سوف يؤدّي، بين عوامل أخرى، إلى عالم متعدّد الأقطاب. ويسترعي الانتباه أن الصين التي استضافت الاجتماع ورعته لم تتوانَ عن استخدام كلمة الديمقراطية، رغم ما يتصف به نظامها السياسي من مركزية شديدة. والحال أن أموراً عديدة تستوقف المرء في البيان الذي شاركت روسيا في صياغته مثل التشديد على الدعوة إلى عدم استخدام القوة والتهديد بها، وقبل أن تضع الحرب على أوكرانيا أوزارها، وحيث لم تنجح قمة ألاسكا في تبريد نيرانها. وفي الإعلان تأكيد على "عالمية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة وترابطها، وأهمية احترام الحقوق والحريات الأساسية، رافضين اعتماد معايير مزدوجة في قضايا حقوق الإنسان أو استخدامها ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول"، وهو نصٌّ مشبع بالدلالات يزكّي مبدأ حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية (للشعوب بالطبع قبل الدول)، وعلى ترابط هذه القضية والنأي بها عن المعايير المزدوجة، ما يمثل رؤية مستوفية الأبعاد لهذه المسألة البالغة الحيوية، وانفتاحاً عليها من دولٍ لم تعبأ بها من قبل، عدا أن الإشارة إلى رفض استخدام الحقوق والحرّيات ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، إذ تنطوي على مبدأ سليم، إلا أنها تثير، في الوقت نفسه، إشكالية، تتمثل في أن مبدأ السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول يشكل أحيانا ذريعة لحرمان الشعوب من التضامن الخارجي متى ما كانت تتعرّض لعسف شديد أو لنزاعات أهلية محتدمة. وفي واقع الأمر، لم يحمل البيان الختامي للاجتماع نبرة تحدّ، ولا استعراضاً للقوة، وتفادى انتقاد دول أو تكتلات بالاسم. أما الإعلان المتكرّر عن عالم متعدّد الأقطاب قيد التشكّل أو بحُكم القائم، فلكم تتوق الشعوب إلى رؤيته حقاً، وإلى أن تلمس مظاهر لهذه التعدّدية، لا أن يتم مثلا ترك القطب الأميركي يرعى حرب الإبادة في غزّة ويطيل أمدها، كما يحدث بالفعل وبغير أن تتدخل الأقطاب الأخرى لوقف هذه البربرية التي تجاوزت كل حدود. العربي الجديد