جامعة بجاية، نموذج للنجاح    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    ملابس جاهزة: اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    قسنطينة: افتتاح الطبعة الخامسة للمهرجان الوطني "سيرتا شو"    الطبعة الرابعة لمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي : انطلاق منافسة الفيلم القصير    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    وزير النقل يؤكد على وجود برنامج شامل لعصرنة وتطوير شبكات السكك الحديدية    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    بطولة وطنية لنصف الماراطون    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع أبراج    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    الجزائر تحيي اليوم العربي للشمول المالي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



11 سنة على رحيل محمد ديب
نشر في النصر يوم 05 - 05 - 2014

أكبر كتاب الجزائر لم يُقرأ بعد
حلت منذ أيام الذكرى ال 11 لرحيل الكاتب الجزائري الكبير محمد ديب (21 جوان 1920/ 2 ماي 2003).
ديب، الذي وهب حياته للكتابة والأدب، والذي خلق بالروايات فجرا من تطلعات وآمال تشق رقعة عتمة كانت، بالأدب وبفوانيس الأدب. خلف إرثا سرديا وشعريا أثرى به المكتبة الجزائرية والعالمية، إذ ترك أكثر من 30 كتابا، منها 18 رواية، من بينها ثلاثية الشمال: سطوح أورسول 1985، إغفاءة حواء 1989، ثلوج المرمر 1990. كما ترك خمسة دواوين شعرية وأربع مجموعات قصصية، وثلاث مسرحيات، إضافة إلى عدد من كتب الترجمات الأدبية.
كراس الثقافة، يحتفي في هذا العدد، بصاحب «فجر إسماعيل»، وكُتاب وأدباء يستحضرون الكبير محمد ديب، الكاتب،
إستطلاع/ نوّارة لحرش
مرزاق بقطاش/ روائي
لم ينل حقه في بلاده ولا في الخارج
هما بوابتان اثنتان تنفتحان دوني كلما ورد ذكر لاسم محمد ديب، نابغة الرواية في الأدب الجزائري. الأولى ذات ارتباط عجيب بالسعال، وأعني به سعال أستاذي الشاعر والمجاهد، الحفناوي هالي، خال المؤرخ الدكتور أبي القاسم سعد الله. كنا يومها في الفصل الدراسي، وفي أواخر عام 1960، أي حين قامت تلك المظاهرات الشعبية العارمة في وجه الاستعمار الفرنسي وأذنابه عبر الجزائر كلها. كان الشيخ الحفناوي هالي، عليه رحمة الله الواسعة، خارجا من محتشد «البرواقية»، حيث عذبه الاستعمار الفرنسي عذابا نكرا، ونال من رئتيه الضعيفتين. كان يتابع أخبار المظاهرات ساعة بساعة فتلتمع عيناه سرورا لأنه كان يدرك أن «عهد الظلم ليس بباق» كما يقول صديقه، الشاعر محمد العيد آل خليفة في تمثيليته الشهيرة «بلال بن رباح».
أتذكر أننا في ما يشبه الاستراحة، رحنا ننصت إليه وهو يقرأ علينا مقالة وردت في مجلة «العلوم» التي يصدرها الأديب والمترجم اللبناني منير البعلبكي. وكانت تلك المقالة ترصد حركة الأدب في الجزائر بوجه خاص، وتتحدث عن كوكبة الأدباء الجزائريين الذين يكتبون باللغة الفرنسية. وكان أن سمعت لأول مرة باسم محمد ديب وسط سعال أستاذي الحفناوي هالي، إلى جانب كل من أسماء مولود فرعون ومولود معمري وآسيا جبار وكاتب ياسين ومالك حداد. والحقيقة هي أن تلك المقالة كانت نضالية تعريفية أكثر من كونها تحليلية. وهكذا رسخ اسم محمد ديب في ذاكرتي وسط سعال أستاذي.
أما البوابة الثانية فهي تلك الجملة السردية الجميلة التي استهل بها محمد ديب روايته «الدار الكبيرة»: «شيئا مما تأكل!». وهي جملة لخصت في نظري جميع مآسي الجزائريين عبر أكثر من قرن من الزمان، وعلى رأسها مأساة الجوع والتجويع. وما زلت إلى يومنا هذا أرى في تلك الجملة مستهلا سرديا لا نظير له في الأدب الجزائري كله، بل، وفي الأدب العربي كله. لو أنني كنت ما أزال على اهتمامي بالموسيقى لانطلقت منها من أجل كتابة قصيد سمفوني، ولكن، يا للأسف، ما زلنا في موسيقانا نهتم بالدربكة التي تسير على وتيرة واحدة بدلا من اتخاذ هذه التعريجة النغمية أو تلك. وبعد أيام من تلك القراءة التي أتحفنا بها أستاذنا، جاء أحد الزملاء برواية «الدار الكبيرة» مترجمة إلى اللغة العربية في سوريا الشقيقة، فطربت له وهو يقرأ علينا المقاطع الأولى منها. ثم تسنى لي بعد ذلك أن أقرأ في صائفة عام 1962 عددا من روايات محمد ديب في مدينة «عين طاية» حيث كنت مع بعض الزملاء في مخيم صيفي. ورحنا نتمتع بالشمس لأول مرة على هوانا، بعيدا عن شمس ألبير كامو وأصحاب الأقدام السوداء.
وكانت صرخات المتظاهرين تتعالى من كل جانب: «سبع سنين بركات.. سبع سنين بركات!». وفي يوم 6 ديسمبر من عام 1962، انتميت إلى صحيفة «الشعب» قبل صدور عددها الأول بخمسة أيام، أي في الحادي عشر من شهر ديسمبر. ولازمت عددا من أصحاب الأقلام الجميلة الذين تعلمت منهم الشيء الكثير، وعلى رأسهم أستاذي الراحل الدكتور حنفي بن عيسى الذي كان ينشر في نفس الصحيفة روايات مترجمة لكل من مولود فرعون ومالك حداد. وفي عام 1964 نقلت إلى اللغة العربية قصة «في المقهى» لمحمد ديب ونشرتها بذات الصحيفة، ثم أتبعتها بترجمة لقصته «الانتظار» التي نشرت بعد ذلك في مجلة «الرواية» التي أصدرها الزميل جيلالي خلاص ضمن عدد خاص عن محمد ديب.
وما زلت مؤمننا بأن محمد ديب لم ينل حقه في بلاده، ولا في الخارج. لو كانت لها هيئة ثقافية حقيقية تحب هذا البلد لعملت المستحيل من أجل ترشيحه لجائزة نوبل للآداب، ولكنني في هذا المقام أستعير قولة الشاعر المتنبي عن النبي صالح: محمد ديب هو أشبه ما يكون بذلك النبي في قومه ثمرد!.
ذلكم هو محمد ديب الذي انطلق في وجداني من سعال أستاذي الحفناوي هالي ومن جملته السردية الاستهلالية الرائعة: «شيئا مما تأكل». وأحسب أنه سيظل متربعا في قمة وجداني وليس في قرارته على نفس العرش، أي عرش السرد الروائي الجميل.
محمد تحريشي / كاتب وناقد وعميد كلية الآداب و اللغات بجامعة بشار
مرجع فني للكتاب والقراء على حد سواء
محمد ديب، هذه القامة الشامخة في سماء الكتابة الأدبية، وما إن يذكر الرجل حتى تذكر أعماله، وبالأخص ثلاثية الجزائر: «الدار الكبيرة 1952، الحريق 1954، النول1957»، ثم تتوالى الأعمال وتتنوع وتتعدد لعطاء لا ينقطع إلا بوفاة الرجل الوفاة البيولوجية، لتستمر أعماله نبراسا يدق في عالم النسيان. إن الحديث عن محمد ديب هو حديث ذو شجون، فهو من جهة حديث عن الكتابة والحنين، لما يصبح الحنين موضوعا للكتابة، ولما تصبح قراءة أعمال هذا المبدع حنينا في حد ذاته، لتتحول إلى مرجع فني للكُتاب وللقراء على حد سواء، وتنفتح على مستوى آخر لما تجعل من التاريخ والتأريخ للأحداث والوقائع موضوعا لها، ويصبح الالتزام والكتابة هدفا وغاية تنشد الجمالية للوصول إلى كتابة من دون عقدة تنهل من ثقافة مزدوجة: عربية وفرنسية، وكان يقول عن نفسه متحدثا عن هويته وعلاقته باللغة «إن أخيلتي وتصوراتي نابعة من اللغة العربية، فهي لغتي الأم، إلا أنها مع ذلك تعتبر موروثا ينتمي إلى العمق المشترك. أما اللغة الفرنسية فتعتبر لغة أجنبية مع أني تعلمت القراءة بواسطتها، وقد خلقت منها لغتي الكتابية».
إن الكتابة بلغة الآخر ميزة الأدب الجزائري حتى قال بعض الدارسين: أصبحت هذه اللغة بالذات سلاحاً من أسلحة المعركة ضد الثقافة الدخيلة، مما جعل بعض الكُتاب الفرنسيين أنفسهم يغتاظون من لغتهم التي أصبحت تستعمل ضدهم، وبخاصة عند كاتب ياسين ومحمد ديب، وكثيرا ما يُطرح السؤال حول الكتابة والآخر، هذا الحقل الدلالي الذي يستدرج مجموعة من القيم الجمالية والفنية من مثل: الكتابة والتهدئة، الكتابة والاستفزاز، الكتابة والتشفي، الكتابة والمحاسبة، الكتابة والتغيير أو الكتابة والتحول، ويبدو أن كاتبنا، كان يكتب من أجل التغيير، ومن ثم فهو، حسب أحد الدارسين، يدعو إلى التحرر من العادات والتقاليد، ودعوته إلى الحرية تنسجم مع روح الكفاح والنضال الجزائري ومع رغبات الشباب المتفتح، وباختصار كان يريد الحرية الواسعة الشاملة، ولعل هذا التميز هو الذي دفع بالكثير من الدارسين والباحثين إلى الاهتمام بأدب الرجل، ولعل كِتاب «المنظور الروائي عند محمد ديب» تأليف يوسف الأطرش، الصادر عن اتحاد الكُتاب الجزائريين، مرجع مهم للقُراء باللغة العربية للوقوف عند القيم الجمالية والفنية في كتابة وأدب محمد ديب، هذا الأدب الذي قال عنه لويس أراغون: موسيقى تقود إلى القلب.
محمد الأمين بحري/باحث وناقد -قسم الآداب واللغة العربية بجامعة بسكرة
رائد أدب الهامش والمنفى والاغتراب ومدرسة ترعرعت في حضنها الرواية الجزائرية
لقد استيقظت قرائحنا الفنية والأدبية بُعيد الاستقلال على ما يمكن أن نسميه «عبقرية البؤس» ونحن نشاهد عملاً سينمائياً متكاملاً يجمع بين المشاهدة والسرد، وزخات شاعرية مؤسية من حوار الذات الذي كان يعتمل في نفسية الطفل «عومار»، كل ذلك مشوباً بعواطف مهزوزة تجاه معيشنا وتاريخنا ونظرتنا للآخر، إنها عواطف بدايات التشكل الثوري للهوية الوطنية ونحن نشاهد تلفزيونياً «الحريق» لمحمد ديب. مسلسلاً، قبل أن تتفتح قرائح الكثير منها على قراءة الرواية بالفرنسية، ثم مترجمة بالعربية على يد المترجم الفذ «سامي الدروبي»، كان ذلك هو الانطباع الأول.
ولما قرأت الرواية أو بالأحرى الثلاثية، كانت المشاهد التلفزيونية ل «لالة عيني»، و»عومار»، و»البوليس»، والصرخات المتصادية من نسوة دار سبيطار، تجتاح مسامعي، وتشوش قراءتي بأحاسيس مضطربة. كنت قد قرأت «البؤساء» لفيكتور هوجو قبل أي عمل آخر، فرأيت بأم عيني المخاض الثوري للثورة الفرنسية في شخص جان فال جان، ورفعت له القبعة كممثل حي للطبقة البروليتارية الثائرة، وما إن اكتويت بنار «الحريق» لمحمد ديب، حتى التمعت في ذهني ثورة بروليتاريا أخرى مختلفة كل الاختلاف. بؤساءٌ في طبعة جزائرية، لا علاقة لهم بفيكتور هوجو ولا ببطله جان فال جان ولا بالثورة الفرنسية، بل هم بؤساء الثورة الجزائرية التي اندلعت في 1 نوفمبر 1954، أي بعد صدور رواية «الحريق» بثلاثة أشهر فقط.
لقد منحتُ رواية «الحريق» -بعد أن شاهدتها في التلفاز، وقرأتها بالفرنسية ثم بالعربية- عنواناً آخر آنذاك، «بؤساء الجزائر»، بكل ما تحيل عليه الكلمة من انتفاضة المساكين، وثورة الجوعى والمحرومين، الذين اشترعوا لأنفسهم شريعة الاغتراب والانقلاب، فتحولت بداخلهم أسئلة الأخلاق والشرائع والقوانين في بلاد السلم المستقلة «..لماذا نسرق.. لماذا نثور» إلى أسئلة معاكسة في بلاد الحرب والاستعمار، أسئلة أكثر أخلاقية وانسجاماً مع وضعهم المشرد: «لماذا لا نسرق.. لماذا لا نثور»، أسئلة تترجمها «لالة عيني» وهي تحمل على ظهرها أثاث بيتها المستعمل كي تبيعه، وانهزامات «عومار» حينما يلوذ بالصمت واضعاً رأسه بين ركبتيه الهزيلتين، حينها ينطلق الراوي في سرد ما يجول في خواطر هذه الشخصيات فتجد نفسك مندمجاً بينها ومتورطاً في خيباتها ومآسيها.
لقد أفهمنا محمد ديب مبكراً ما هو المأساوي: حينما استبدل مأساة القتال والاقتتال في المعارك، بالصراع النفسي واضطراب أحاسيس الشخصيات، بإظهار مظاهر المذلة والانكسار والاغتراب والانشطار والتهميش. لا نبالغ إن قلنا بأن خطابه التصوفي في سرد المأساة يعتمد على الانطلاق من هامش الحياة، والتاريخ والمجتمع، ليصعد متسلقاً إلى معارج النفس حتى يخنقها ألماً وتوحداً، لتجد نفسها مجبرة على نشدان التحرر وإيجاد الخلاص نحو النهاية.
هذا ما كان يردده «عومار»، وهو يتمنى الموت صارخاً في وجه أمه، وهذا ما كانت تدعو به «عيني» على نفسها وعلى عجوزها المقعدة، فتتبدى شخصيات تنبت من أصل المعاناة، تنشد الخلاص بالمعاناة نفسها ولا ترضى بغيرها وسيلة.
لن نبتعد عن منطقية الاستنتاج إن قلنا بأن محمد ديب قد أثر في من تلاه من كُتاب الرواية الجزائرية، بخلق مثل هذه الشخصيات الناقمة على وجودها، الملعونة ذاتياً في نفسها ورغباتها، وموضوعياً في أزمات وجودها ووضعها النشاز في العالم. ونذكر في هذا الصدد على سبيل التمثل لا الحصر: «رشيد» في رواية «نجمة»، و»اللاز» للطاهر وطار، وغيرهما.
ولا يختلف ناقدان في كون الروائي محمد ديب قد شكل أول مدرسة ترعرعت في حضنها الرواية الجزائرية وتشكلت على ضوئها معظم بنياتها التكوينية من حيث الطابع المأساوي، في بنائها الداخلي والخارجي، فكان بحق رائد أدب الهامش والاغتراب والمنفى، في عصر هو في عصور لاحقة ما تزال الكتابة فيها تمتاح من معينه الذي لا ينضب، وتستلهم رؤاها الفنية من مشاهده العابقة بالذاكرة والتاريخ وغبطة البدايات التي تحكي آلام الولادة الأولى.
ميلود حكيم/ شاعر ومترجم
لم يكن شخصية إعلامية مشهدية بل ترك نصوصه تتحدث بدلا منه
لا نستعيد الراحل محمد ديب إلا لتكريس غياب كان اختاره بوعي أثناء حياته، كأنما ليقول للجميع أنني لا أحد، ولست هنا إلا لأروي حكاية شخوص يحاورونني بالهذيان فأبعث فيهم تلك الروح التي تخرجهم إلى المشهد الجارح للتخييل. ألم يقل في مقطع من ديوانه «فجر إسماعيل»: «لقد أعطيتم كل شيء لشخص لم يكن أحدا». هكذا كانت حياته، ذهابًا في الصمت والعزلة حتى اعتقد الجميع أنه مات من زمن طويل، ولم تعد تكلمنا منذ ذلك الغياب الاختياري إلا كُتبه، وأعماله التي كانت تحاور الموت بعمق أكبر وتبتعد في الغموض الشفاف لأسئلة لا أجوبة لها.
كانت دائما صورة محمد ديب مرتبطة لدي بالصفاء والشفافية، وبهذا الامتلاك الحكيم لفضائل معانقة الوجود بشغف الهدنة الطويلة، والتبادل الحيوي لكل شيء، الكائن في هذا الخضم يمنح كله للعناصر، يتوحد معها إلى درجة الذوبان والفناء الذي هو حياة أخرى، هو يحيا تجربة عبور لا ينتهي من العبور. والسر كله يكمن هنا، إذ التحول مقيم، والسفر ذهاب بلا وصول، وارتحال مجازف في تضاريس المفاجأة والدهشة، بالقدرة المستمرة على الحيرة والتوغل في المناطق الأكثر عتمة، ليس من أجل إضاءتها، ولكن لجس مخمل السواد الذي بلا نهاية، للشعور بذلك العماء البهي، حيث لا دليل ولا وصول، هو نقر طائش بالبصمة التائهة لارتجافة السديم، تلمس شقي لما لا يدرك. وبحث يائس عن القبض عليه أو قوله أو عيش تجليه. لكن لا يتسع المتاح من اللغة والإشارة والنبض للوصف. لهذا أجمل ما في هذه الحالة هو الخرس بكل جنونه، والفقدان المأخوذ بالمستحيل. عودوا هنا لنصوص ديب المحورية خاصة ثلاثية الشمال وعلى الأخص "إغفاءة حواء" ولشعره الأخير.
في السنوات الأخيرة لحياته تحول محمد ديب إلى أسطورة حية، إذ كان آخر الأحياء من جيل من الكُتاب المؤسسين للأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، وكان يبتعد أكثر في العزلة والغياب، يحيا غربة العبور بين مجالين لغويين مختلفين، استطاع أن يصوغ منهما معًا لغة جديدة وأسلوبا شخصيا، يتضمن أسرارا ودقائق وابتكارات لا تتاح إلا لمن تمرس بهدوء على تطويع الكلمات وترحيلها من حقول ثقافية متجذرة في اللاوعي إلى فضاءات قادمة من هبات الآخر الذي يبقى أجنبيا، من هنا كانت كتابة محمد ديب كتابة الغريب الذي أدرك بمرارة هذه الحالة وجعل من حياته قربانا لها، هو الغريب الذي يقيم بين ما فقده إلى الأبد ولن يستعيده إلا بوهم الكتابة عنه، وبين حاضر ليس ملكه وليس هو فيه إلا شاهدا لا يؤخذ بشهادته المجروحة لأنها نابعة من شخص غير موثوق فيه لأنه الغريب مرتين هنا وهناك لهذا اختار محاورة الأبدية والسكن في اللغة التي أبدعها حتى لا يبقى منفيا أزليا إلا في المكان الذي يختاره هو في المركز أين يتحول وجهه إلى سؤال كما في شعره..
إن محور أعمال محمد ديب كان هذه الحالة النابعة من شجن المنفى بكل تجلياته، لهذا اختار العزلة والغياب، وابتعد في الأقاصي، وتحول إلى أسطورة حول هالتها المضيئة تدور حياة كاملة من الزهد والتقشف والابتعاد عن الأضواء.. محمد ديب لم يكن يوما شخصية إعلامية مشهدية، كان قليل الظهور، كأنما ليفسح لنصوصه أن تتكلم بدلا عنه، كان يختبر موته ككائن حي ليفسح للكائن الورقي أن يأخذ قسمته من محنة الوجود. بهذه المسلكية النادرة في مجتمع أصبح كُتابه ومثقفوه صنيعة الإعلام بامتياز، وهذا في العالم كله، استطاع محمد ديب أن يجد المسافة الضرورية بينه وبين عمله. في هذا المسعى على مشقته وشقائه، كان للفضائل التي ارتبطت بهذا المسار سحر الغرابة الجميلة فالحاضر الغائب يبقي، وهو يتصل مع الآخرين، على ذلك الاحترام الذي تفرضه أخلاقيات الابتعاد والعزلة، هذه الأخيرة التي أصبحت مبدأ حياة، وخيارا حرا، يدفع بالمبدع إلى التوحد مع الضفة الأخرى، ومع الأصداء المنبعثة من عوالم ينسجها المخيال، هذه العوالم التي ليست بعيدة عن الواقع، ولكنها سفر إلى أعماقه وخفاياه. هذه الحياة التي اكتنفتها السرية والعزلة، لا تعني إطلاقا أن الكاتب لم يكن منخرطا في قضايا راهنه وعصره، ولكن طريقة النظر إليها، والموقع البعيد عن كل حسابات مصلحية أو سياسية أو غيرها، تجعل من التناول يأخذ جدية المساءلة، وخطورة المقاربة الحكيمة التي لا تناور، ولا تحقد أيضا، ولكن تحاول أن تجد العطب ومكامنه، وتبحث في جذور المشكلة، وفي أطرافها الفاعلة، وكان هذا دأب محمد ديب باستمرار.
عندما رحل محمد ديب للمرة الأخيرة منذ سنوات وصدقنا رحيله، كانت روحه التي طالما شبهها بالطيور في شعره، تحلق حرة لتتوحد مع السيمرغ، ألم تكن الطيور لديه ترمز للتواصل مع العالم العلوي، ألم يكتب فريد الدين العطار سفرا كاملا، أبطاله طيور ذهبت لتبحث عن ملكها وتتوحد به في الأخير. محمد ديب كان مسكونا بهذه الحالة، وبحالة أخرى لا تقل غموضا وبهاء عنها، وهي تقمص الاسم حيث يتحول الكائن إلى ذئب، ويطلق سراح الوحش الرابض في أعماقه كي يختبر عنف الوجود، وعنف العلاقة بين المقدس والمدنس، ويذهب في أرضية الكائن، إن هذين الرمزين الذين توحد معهما محمد ديب -الطيور والذئب- تفتح أفقا آخر لتجربة الإنسان ليحاول فهم مساره في مسار كائنات أخرى هي امتداد لجنونه وغرائزه وفانطاسماته وطيشه وحكمته أيضا.. أين لنا هذه القدرة للإنصات لكل هذا الهدير الذي يسكننا.
نصوص محمد ديب الأخيرة تدون امتحان العبور، وتكثف بلاغة الصفاء والشفافية، حيث تدخل اللغة في اقتصاد معجز، وتنفتح الرؤيا على عوالم أقرب إلى المستحيل، أليست هي كتابة المستحيل؟ كتابة لا تقول ولكن تشير، وفيها يسطع القبس المعمي لنور لا تترجمه الكلمات.. هي سفر في مجهول ينكشف مقتربا مبتعدا، يمنح نفسه للعين المحدقة ولكنه يفترسها بعد ذلك، تاركا انفجارها الضوئي يبوح ببعض الأسرار. الكتابة هنا تسمي من جديد، تحاول أن تبتكر معجمها الجريح لتقول دمها الأبيض وخيبتها الأخيرة دوما، الخيبة التي لا تنتهي ولا تبتدئ إلا في الصمت المطبق الذي تحرسه الريح الماحية للألواح، والرمال المهاجرة والرحالة، كأنها مسكونة بالمقدرة الدائمة وبإعادات التشكيل اللاسعة والمحولة. إن محمد ديب كان يكتب كتابة الصحراء فهل قرأناه؟ هل نقرأه؟ أم سنتركه منفيًا أبديا كما كان؟.
عبد الوهاب بن منصور
قاتلك هو من يدفعك إلى المنفى وفق «هابيل›
مع رواية «هابيل» افتتح محمد ديب مسار كتابته عن المنفى. المنفى داخل جغرافيا مغلقة تحدد المصائر وتُفقد المعنى الأزلي الزمن. المسار الّذي سيتبعه برواية «سطوح أورسول» أو في ديوانه الشعري «فجر إسماعيل». ندرك مع البداية أن قابيل لم يقتل أخاه هابيل، بل دفعه إلى المنفى. فهل المنفى أشدّ من الموت؟. فهابيل بعد أن قَبِل بالمنفى «ليسطع نجمه» (ص:160)، دخل تجربة الانفصال عن الوطن والعائلة والأخ، الأخ الّذي سيظل هامسا له بكلامه المفعم بالحكمة. فيلجأ هابيل إلى الصمت. الصمت في أمكنة مغلقة/ في غرفة أو مقهى. يتلذذ بالنظر إلى «سابين». يعشقها ويحبّها في صمت. وعليها، هي المأخوذة بعشق هابيل، أن تقتلع منه الكلمات أو أن تجد طريقة أخرى للتواصل معه غير لغة الجسد والنظر. اللغة المبتكرة/هنا في المنفى/ لا يمكنه أن يفهمها دائما.
سابين الّتي تحاول أن تخفّف من عبء المنفى عن هابيل وضياع معالمه ستمنحه قدرة الشك في صوت الأخ الحاضر بصيغة المخاطب، والّذي سرعان ما يتحول إلى صوت مضاعف موازٍ مشكوك فيه، ثم يفقد قوته ورنته ليدخل فراغا سحيقا لا صدى له، وبنفس الوقت سيتركها لقدرها إذ لامس الموت. ألم يقل وقد عاد الصوت بصيغة الغائب: «التفت. اختبر الظلام. الوحدة الأكثر عمقا. نفس الفراغ يعمّ الجوار.» (ص:72).
بمفترق الطرق ( carrefour) يداوم على الحضور، بانتظار موت هارب قد يحضر وقد يغيب. يرقب من الأطراف، بنفس المكان وفي نفس الوقت، الحياة، الناس والعربات، ملتزما بالحياد، لكن يصدمه عشق "ليلي" ويدهشه. "ليلي" الخفية الهاربة دوما منه ومن قيد الحب لتبيع جسدها وغير مبالية به. يرغب، الآن في مفترقه، أن يمتلكها. لكنها لا تعيره اهتماما، وهي المريضة "عقليا" أو المجنونة حبا، القابعة في عالمها. أليس الجنون منفى آخر غير منفى الوطن؟. هل قدر المنفيّ الانتظار؟ وأين؟ بمفترق الطرق. أليس بمفترق الطرق يتداخل ويتقاطع العابرون على اختلافهم؟ وأليس بمفترق الطرق تتقرر الوجهة والمسار؟.
يعود إلى سابين ويخبرها أنه أكل ليلى المقعدة بإحدى المصحات. تدرك جنونه فتأمل أن يحين دورها ليأكلها. هي حيوانية هابيل وجنونه حين يحب، أم هي عدوى الجنون انتقلت إليه بفعل الحب من ليلي؟. أم هذا مجرد تذكير بمجنون ليلى؟ أم أن الحب بالمنفى من سماته الجنون؟ أو ربما قصد أن هابيل ليس سوى تلك العبارة العامية المتداولة "في تلمسان مسقط رأس الكاتب" والتي تعني الهبيل/ المهبول؟ لكن لما لا يمكن تصوّر أن هابيل بفعل النفي تحوّل إلى الهبيل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.