حماية الطفل واحترام المعلمين واجب لا يقبل التهاون    الرئيس يولي عناية خاصّة لقطاع العدالة    منصوري تشارك في اجتماع لمجلس السلم والأمن الإفريقي    سوناطراك توقّع 4 مذكّرات تفاهم    خطوة أولى في مسار تجسيد منظومة وطنية متكاملة    أنين الجوع في غزّة يتصاعد    الجزائر تدعو لتعزيز الدبلوماسية الوقائية    المعاملة بالمثل لمواجهة انتهاكات روتايو    افتتاح واعد مُنتظر هذا السبت بسطيف    إخماد مجموعة من حرائق الغابات    إجراءات استباقية لضمان دخول مدرسي ناجح بوهران    الرئيس تبون يقود الجزائر بثبات نحو التطور المنشود    زيارة الرئيس تبون إلى روما.. لبنة جديدة لدعم العلاقات النّموذجية    تسارع وتيرة سن تشريعات تكرّس منظومة الفساد في المغرب    اختتام اكتتاب القرض السندي لشركة "توسيالي الجزائر" بنجاح    3 حالات للحصول على البطاقة الذهبية الكلاسيكية    نظام البطاقية الوطنية لترقيم المركبات: خطوة نحو منظومة رقمية متكاملة لتسيير المركبات    أمطار رعدية مرتقبة بعدة ولايات بداية من ظهيرة الجمعة    التسممات الغذائية في الصيف: مخاطر متزايدة وضرورة للوقاية    رئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي ناصر طير    الألعاب الإفريقية المدرسية بالجزائر... منصة لصقل مواهب الشباب    سوناطراك توقّع 4 مذكرات تفاهم مع مؤسسات طاقوية ليبية لتعزيز التعاون في مجالات المحروقات    الجزائر تؤكد التزامها بالدفاع عن الموقف الإفريقي الموحد في قمة إصلاح مجلس الأمن    المغرب: الدعوة الى حل لجنة الصداقة البرلمانية مع الكيان الصهيوني في ظل تصاعد الغضب الشعبي ضد التطبيع    الطارف..سوناطراك تُكمل بنجاح رفع وتيرة الإنتاج بمحطة تحلية مياه البحر بكودية الدراوش    انطلاق فعاليات الدورة ال28 للمهرجان الوطني للمسرح المدرسي بمستغانم    تنسيق إداري موسع لترقية الاستغلال    هذا جديد مصنع فيات    الأطفال يحولون أنشطتهم الرقمية إلى مصدر للربح    لقاءات وطنية للإعلام والتوجيه لفائدة التلاميذ    برنامج سياحي وثقافي.. كرة القدم وتنس الطاولة أول المنافسات بقسنطينة    حجز 2 كلغ "كيف" وتوقيف مروجين    السيطرة على حريق حجريية بكركرة    إخماد حريق غابة تافرنت    1700 رياضي يشاركون في الطبعة الأولى بالجزائر    "انبثاق" بقصر "الداي"    الكتاب سيحتفظ بمكانته رغم التحديات الرقمية    5 مواهب شابة تدخل المنافسة    خضرا: سأعبّر عن استيائي ضدّ الإبادة    كاراتي دو- بطولة إفريقيا- 2025 / فئة الأشبال: الجزائري أيمن بن خدة يتوج باللقب القاري    مقررة أممية تدعو الدول الرافضة لوحشية الكيان الصهيوني في قطاع غزة إلى فرض عقوبات عليه    مرصد يدين بشدة محاولات الاحتلال المغربي طمس الهوية الوطنية والثقافية للأطفال الصحراويين    الجزائر العاصمة تحيي الذكرى ال185 لميلاد الملحن الروسي الكبير تشايكوفسكي باحتفالية موسيقية    وهران: 49 جريحا إثر انقلاب حافلة لنقل المسافرين بقديل    بطولة إفريقيا للاعبين المحليين: مدرب المنتخب الجزائري يعاين عن قرب جاهزية لاعبين في مباراة تطبيقية    المتعاملون الاقتصاديون المتواجدة سلعهم حاليا في الموانئ مدعوون لتقديم جملة من الوثائق لتسوية وضعيتهم    بوقرة يكشف عن قائمته    الجزائر تعتبر اللغة العربية "قضية سيادية وثقافية بامتياز "    شبكة ولائية متخصصة في معالجة القدم السكري    منظمة الصحة العالمية تحذر من انتشار فيروس شيكونغونيا عالميا    وهران: افتتاح معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة    هذه حقوق المسلم على أخيه..    النمّام الصادق خائن والنمّام الكاذب أشد شرًا    إجراءات إلكترونية جديدة لمتابعة ملفات الاستيراد    استكمال الإطار التنظيمي لتطبيق جهاز الدولة    رموز الاستجابة السريعة ب58 ولاية لجمع الزكاة عبر "بريدي موب"    أفشوا السلام بينكم    هذا اثر الصدقة في حياة الفرد والمجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيخ محند واعمر: المصلح الاجتماعي الذي مارس السياسة‬
نشر في الشروق اليومي يوم 03 - 06 - 2007

تعتبر منطقة آزفون (160 كلم شرق العاصمة) التي ينتمي إليها الشيخ محند واعمر، خزانا لرجالات الإصلاح والسياسة والثقافة. وإذا كانت الأسماء اللامعة في عالم السينما والمسرح والموسيقى والفنون الجميلة والغناء المنتمية إلى هذه المنطقة معروفة طبقت شهرتها الآفاق بحكم تواجدها في فضاءات الإعلام المختلفة، فإن مثقفي القلم والناشطين في مجالي الإصلاح والسياسة عن طريق الأعمال الجوارية قد ظلوا بعيدا عن الأضواء، الأمر الذي أدى إلى تهميش ذكراهم وهم صانعو الحدث في زمانهم.
لذلك فإن واجب الوفاء لأفراد ذلك الرعيل الذي صنع المعجزة يفرض علينا أن نحافظ على الأقل على ذكراهم، وأن نجعل منها مرجعية للأجيال حتى تدرك أن السماء لم تمطر الحرية والسيادة الوطنية، وأن السلف الماضي قد كدّ وتعب، ولم يدخر أي جهد من أجل الوطن وسيادة أهله وكرامتهم وعزتهم، ومن هؤلاء الشيخ صادو محمد المدعو الشيخ محند‮ واعمر‮.‬
ولد الشيخ محند واعمر في قرية شرفة أوزفون سنة 1890م، وهو ابن الشيخ أعمر أمزيان قطب الصوفية في المنطقة، وبلغديد فاطمة، تعلم مبادئ القراءة والكتابة في مسقط رأسه ثم أكمل دراسته بزاوية سيدي منصور بعرش آث جناد (ولاية تيزي وزو) التي كانت منارة للعلم والتقوى وراعية للمجتمع. وحسب المعلومات المستقاة من السيد رحماني الطاهر فقد درس أيضا بزاوية طولقه قرب بسكرة بالجنوب الجزائري، أما السيد مرسلي محمد فقد ذكر أنه درس أيضا بمدينة فاس المغربية. وكان والده المتفقه في شؤون الدين قد وقف حجر عثرة أمام قانون التجنيد الإجباري في مطلع القرن العشرين حينما سعت فرنسا إلى استصدار فتوى من علماء المنطقة استدعتهم إلى زاوية سيدي منصور تجيز للمسلم التجنيد في صفوف جيوش فرنسا. والجدير بالذكر، أن أسلافه قد تلقوا ضربة قاصمة حين قامت فرنسا بمصادرة أراضي الأهالي وتأسيس مستوطنة للفرنسيين وغيرهم‮ من‮ الأوروبيين‮ أطلق‮ عليها‮ اسم‮ (port gueydon) تكريما للأميرال الفرنسي الذي صار حاكما عاما للجزائر سنة 1871م، وتم بناؤها عن طريق السخرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هذا وقد تضاعف عدد السكان الأوروبيين فشيدوا كنيسة ومدرسة وحانة في قلب مستوطنة آزفون، وهو الأمر الذي اعتبره السكان مصدر قلق لهم، لما لحقهم من أضرار جراء تداعيات هذا التواجد الأوروبي، وذكر الكاتب الفرنسي (ألان ماهي Alain mahe) في كتابه الموسوم: (تاريخ القبائل الكبرى Histoire de la grande Kabylie) أن بلدية آزفون المختلطة كانت سنة 1936م تضم (30720) نسمة بمعدل 75/ ن في كلم2، وبها ما يقل عن (10) مدارس، وبلغ عدد المهاجرين إلى فرنسا حوالي (1200) شخص أي حوالي (6.15٪) من مجموع الذكور البالغين سن العمل. ولم يتجنس منهم إلا (19) شخصا.
ورغم تصدي رجال الدين لهذا المسخ بحزم كبير، فإن الاحتكاك اليومي بالأوروبيين بحكم الضرورة الاجتماعية قد أثر سلبا على الجزائريين، لذلك كان لزاما أن تتضافر جهود أهل المنطقة بغيرهم من المصلحين في باقي الوطن، وفي هذا السياق برزت جهود الشيخ محند واعمر في ربط الصلة مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولا شك أن الشيخ المصلح باعزيز بن عمر وهو من منطقة آزفون قد ساهم في دعم هذا التواصل، وهكذا استقبلت منطقة آزفون الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1930م في إطار زيارته لمنطقة القبائل، وكان الشيخ محند واعمر وراء تنظيم هذه الزيارة، ونظرا للرقابة الشديدة المفروضة على الشيخ عبد الحميد بن باديس فإنه لم يتمكن من إلقاء دروسه في مساجد قرى المنطقة التي يحتمل أن يكون قد زار بعضها ولو سرّا، كقرى عشوبة وآث سيدي يحي وشرفة أوزفون وآث حماد المشهورة بمدارسها القرآنية، ومما يرجح هذا الاحتمال أن بعض شيوخ قرية عشوبة قد أكدوا مجيء شخصية دينية كبيرة إليها في الثلاثينيات من القرن العشرين استضافها الشيخ محمد ولحاج المنضوي تحت لواء الحركة الإصلاحية، الذي دأب على التواصل مع قيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكذا مع شخصيات إسلامية ذائعة الصيت كشكيب أرسلان.
وبقدر ما كانت هذه الزيارة دعما للحركة الإصلاحية، فإن الإدارة الفرنسية قد نظرت إليها بعين السخط، الأمر‮ الذي‮ جعلها‮ تضع‮ الشيخ‮ محند‮ واعمر‮ تحت‮ رقابتها،‮ وتحاصره‮ بسلسلة‮ من‮ المضايقات‮ أرغمته‮ على‮ بيع‮ منزل‮ له‮ في‮ بلدة‮ آزفون‮ التي‮ منع‮ من‮ دخولها‮ لبعض‮ الوقت‮. إن ما ميّز حياة الشيخ محند واعمر أن نضاله قد شمل مجالي الإصلاح الاجتماعي بقيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والنضال السياسي بقيادة حزب الشعب الجزائري، لذلك فإن مساره النضالي قد شكل ظاهرة فريدة تستحق التنويه ووقفة التقدير، ومن باب الإنصاف أن نشير إلى الأسماء الأخرى وإن كانت قليلة التي انضوت في إطار هذا المسار النضالي بالمنطقة، منها الشيخ مزيان أمسون (من قرية أمسونن، عرش افليسن البحرية بثيقزرت) وأزرقي آيت صديق (من قرية ابسكرين، عرش آث جناد). والجدير بالذكر أن تواجد أهل منطقة آزفون بكثافة في مدينة الجزائر، قد ساعد على نقل أفكار حزب الشعب الجزائري إلى قرى المنطقة، لذلك تكونت خلية للحزب في وقت مبكر أشرف على تأطيرها المناضلان الكبيران كريم بلقاسم وأعمر أوعمران.
وعندما زار مصالي الحاج منطقة آزفون وألقى خطابا بسوق أغريب ناث جناد سنة 1946م، أسند مسؤولية الحزب إلى الشيخ محند واعمر الذي فتح عقب ذلك مكتبا للحزب ببلدة آزفون، وتشكلت هذه الخلية من مناضلين عديدين ينتمون إلى عدة قرى في أعراش آث جناد، وافليسن لبحار، آث أفليق وزرخفاوه، وآث شافع، أشهرها قرى ابسكرين واغيل مهني وعشوبة وشرفة أوزفون واحمزيون وثيفزوين وأث سيدي يحي وأث يلول. هذا ولم تكتف الإدارة الفرنسية بمحاولات غلق مكتب حزب الشعب فقط، بل حاولت أيضا نفي الشيخ محند واعمر من منطقة آزفون، والملفت للانتباه حسب المعلومات المتداولة في أوساط المثقفين والمهتمين بالشؤون التاريخية للمنطقة أن (الباشاغا) آيت علي محند أوبلعيد (من عرش آث واقنون) قد ساعده بطريقته الخاصة في صراعه مع الإدارة الفرنسية، وكللت جهوده بإسقاط قرار النفي، ولم يستغرب الباحث العصامي السيد محالة لونيس موقف هذا الباشاغا المتميز باحترامه لرجال الدين، ذاكرا كمثال على ذلك أنه حمى أيضا الشيخ البشير‮ آيت‮ صديق‮ (‬إمام‮ قرية‮ أبيزار‮) المشهود‮ له‮ بوطنيته‮ المتأججة،‮ من‮ الإدارة‮ الفرنسية‮.
ركز الشيخ محند واعمر جهوده النضالية من أجل كسب رجال الدين إلى صف الحركة الوطنية لما لهم من تأثير قوي في صناعة الرأي العام وتوجيه العوام، الذين يعتبرون الزوايا مرجعية للمجتمع ومنارات تنير دروب الحياة، وفي هذا السياق ركز جهوده على زاوية سيدي منصور ذات التأثير الواسع في منطقة آزفون. ويبدو أن ما أسفرت عنه ثورة 1871م من نتائج وخيمة على الزوايا التي كانت وراء هذه الثورة، قد جعل أسرة آل يوسف المسيرة للزاوية تحتاط وتلتزم الحياد السياسي، وفي الحقيقة فإن ما بدر منها من محاربة الإصلاحيين وفكرهم النهضوي قد أفقد مصداقية حيادها، ولعل أبرز مثال تجلى فيه انزلاقها هو حرمان طلبتها من كتب ومجلات وصحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي منعت تداولها في الزاوية، وفضلا عن ذلك فقد ضايقت إلى حد الإزعاج الأستاذ العلامة الأزهري أرزقي شرفاوي الذي عاد إلى الجزائر في مطلع الثلاثينيات، وقد اختار التدريس في عمق منطقة الزواوة التي أطبق عليها الجهل، بدل الاستقرار في المدينة. لذلك لم يفلح الشيخ محند واعمر في إدخال الفكر الإصلاحي إلى هذه الزاوية، ورغم ذلك فقد ظل يعاملها معاملة سلسة ومرنة لما لها من فضل في صيانة الشخصية الإسلامية لأهل المنطقة‮. وبالنظر‮ إلى‮ شدة‮ المضايقة‮ الفرنسية‮ على‮ نشاطه‮ السياسي،‮ فقد‮ تحايل‮ عليها‮ بالتركيز‮ على‮ العمل‮ الجواري‮ مستغلا‮ مكانته‮ الاجتماعية‮ باعتباره‮ رجل‮ دين‮ مطلوب‮ في‮ مختلف‮ المناسبات‮ الاجتماعية‮.
ومما يؤكد سمو مكانة الشيخ محند واعمر في صفوف حزب الشعب الجزائري بمنطقة القبائل، أنه اختير ليكون عضوا في وفد المصالحة الذي تمخض عن اجتماع عزازقة المنعقد في شهر جويلية سنة 1949م إلى جنب العضوين الآخرين وهما عبد القادر آيت سيدي عيسى، ومسعود أولعماره إثر تصدع صفوف الحزب بفعل ما سمي بالأزمة البربرية، الناجمة عن إقصاء البعد الأمازيغي في المذكرة السياسية التي أعدتها قيادة الحزب لإرسالها إلى هيئة الأمم المتحدة، وحاول هذا الوفد احتواء الأزمة برفع التقرير المنبثق عن الاجتماع المذكور إلى رئيس الحزب مصالي الحاج. وذكر‮ الكاتب‮ علي‮ قنون‮ في‮ كتابه‮ الموسوم‮ (‬تاريخ‮ الحركة‮ البربرية(chronologie du mouvement berbère أن الرئيس قد استقبل فعلا هذا الوفد واستحسن هذه المبادرة ووعد أعضاءه باستدعاء اللجنة المركزية لدراسة هذه القضية بحضورهم، علما أن جماعة المناضل واعلي بناي المتهمة بإثارة فتنة الانقسام في الحزب قد فصلت عن الحزب، وفي الحقيقة فإن ما صرح به مصالي الحاج للوفد المذكور‮ لم‮ يتجاوز‮ حدود‮ لباقة‮ الاستقبال‮.
وعندما اندلعت ثورة نوفمبر 1954م احتضنها الشيخ محند واعمر، وسقط ابنه الشيخ علي شهيدا في ميدان الشرف. وبعد الاستقلال عاد إلى مهمته الإصلاحية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويرأب الصدع بين المتخاصمين ويزرع الفضيلة في المجتمع، إلى أن انتقل إلى جوار ربه يوم 13جويلية‮ سنة‮ 1974‮. وتقديرا‮ لدوره‮ الإصلاحي‮ في‮ منطقة‮ آزفون‮ فقد‮ سمي‮ مسجد‮ المدينة‮ باسمه،‮ علما‮ أنه‮ كان‮ رئيسا‮ للجنة‮ المكلفة‮ بإنجازه‮.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.