أراد نظام حسني مبارك في مصر أن يستفيد من كل تفاصيل تجربة الدكتاتور التونسي المخلوع زين العابدين بن على وحرص على عدم تكرار أخطائه التي يعتقد أنها عجلت بسقوطه، ومن هنا كان لا بد من توجيه الضربة الأولى لوسائل الاتصالات ريثما يتم اغتيال الانتفاضة بالضربة القاضية. حتى في الثورة الشعبية تكون الغلبة لمن يقوم بالضربة الأولى ويقدر على تحقيق عنصر المفاجأة، وفي الحالة المصرية كان الشارع يطلق إشارات منذ وقت غير قصير على أن صبره بدأ ينفذ وأنه سيتحرك قريبا من أجل التغيير، لكن في مقابل هذا كان النظام المصري يجري حساباته هو الآخر ويستعد لساعة الحقيقة التي كان ينتظرها، ومن اللحظة الأولى بدا واضحا أن ما جرى في تونس لم يغب عن حكام القاهرة الذين اقتنعوا تماما أن الانتفاضة الشعبية تستعمل سلاحا فتاكا هو سلاح الاتصالات، ولمصر تجربة طويلة في هذا الميدان وهي التي شهدت بروز مساحات جديدة للمعارضة أنشأها المدونون الذين تعرض كثير منهم إلى القمع والسجن. من اللحظة الأولى كان القرار واضحا، لا مجال للتراجع، القمع هو السبيل الوحيد لكسر إرادة الشارع وتشتيت المتظاهرين، لكن القمع له محاذير، فهو يحرض على مزيد من الغضب الشعبي، وهو يؤلب الخارج ويجلب ضغطه ولومه، من هنا كان المطلوب هو القيام بالقمع في ظل تعتيم كامل وهو أمر غير ممكن في ظل وجود عشرات القنوات التلفزيونية الأجنبية ووكالات الأنباء، ولشل قدرة هؤلاء على نقل الحقيقة تم قطع كل أشكال الاتصالات في مصر لساعات تم خلالها استعمال أساليب وحشية ضد المتظاهرين في محاولة لتوجيه الضربة القاضية لهم وإجهاض الانتفاضة قبل أن تولد، لكن تراكم ثلاثين سنة من القمع والفساد والظلم الذي مارسه نظام مبارك منح الجماهير قدرة رهيبة على امتصاص الضربة الأولى وتحويلها إلى سبب آخر للغضب، فكانت بقية القصة التي تتواصل إلى هذه اللحظة. في أول خطاب له منذ اندلاع الثورة ضده قال مبارك إنه لولا مساحات الحرية التي توفرت في مصر لما أمكن للمظاهرات أن تخرج إلى الشارع، وقد ظل النظام المصري يتغنى بأنه يوفر مساحات لحرية الإعلام، ورغم الخلاف السياسي مع قطر فإن قناة الجزيرة المغضوب عليها بقيت تعمل بكل حرية في مصر، إلى أن تم اتخاذ قرار غلق مكاتبها وسحب الاعتماد من مراسليها ابتداء من أول أمس، وهو قرار يعكس حالة الذعر التي تملكت النظام بعد أن تأكد أن هذه القناة ووسائل إعلام أخرى تحولت إلى منبر لدعاة الثورة وأنها تلعب دورا أساسيا في إيصال أصوات المتظاهرين إلى الملايين من المواطنين الذين لم يلتحقوا بالشارع بعد. لقد أحدثت الانترنيت ثورة حقيقية في الإعلام ليس من خلال الشبكات الاجتماعية التي كانت بديلا عن وسائل الإعلام التقليدية، ولكن من خلال إرغام وسائل الإعلام التقليدية والتلفزيون خاصة، على تغيير طريقة عمله بالانخراط في حركة الشارع بشكل مباشر، فخلال الأيام الماضية تحولت الجزيرة إلى قناة يتحدث من خلالها على مدار الساعة المتظاهرون من عامة الناس جنبا إلى جنبا مع القادة السياسيين وأساتذة الجامعات وخبراء القانون ومناضلي حقوق الإنسان، وقد تبعت قنوات أخرى الجزيرة على هذا النهج حتى أن قناة رصينة مثل "بي بي سي" وجدت نفسها مضطرة إلى الأخذ بهذا الأسلوب الشعبي في الإعلام، وقد بدا الصحافيون المصريون الذين يراسلون القنوات الأجنبية في غاية الحماس وهم ينقلون صوت الشارع، ولا يكاد الخطاب الإعلامي يختلف بين قنوات أوروبية وعربية إلا بعض وسائل الإعلام المرتبطة بأنظمة أعلنت صراحة وقوفها إلى جانب مبارك في حربه على شعبه. أكثر من هذا ظهر الإعلام المصري، سواء كان رسميا أو تابعا لرجال الأعمال الذين يدورون في فلك النظام، عاجزا عن مواكبة الحدث، وفاقدا للمصداقية، وقد اختار المواطنون المصريون أن يتحولوا إلى مراسلين للقنوات الأجنبية والجزيرة المحظورة تحديدا من خلال القيام بتصوير الأحداث وإرسال مادتهم الإعلامية إلى القناة عن طريق الانترنيت، ومن خلال تقديم الشهادات الحية عن طريق التدخلات عبر الهاتف. لقد أثبت نظام مبارك من خلال طريقة تعاطيه مع وسائل الإعلام والاتصالات أثناء هذه الانتفاضة أنه عاجز تماما عن مسايرة التطورات التي شهدها المجتمع المصري، وأنه غير قادر على استيعاب الفارق الكبير الذي أحدثته التكنولوجيا في هذا العصر والذي أصبح فيه التعتيم والتضليل أمرا مستحيلا.