وسط دمار عامين من الحرب التي طمست ملامح غزة، جاءت صرخة التحدي هذه المرة محمولة على أصداء الفرح لا طلقات الرصاص. تحدّى أكثر من مائة رجل وامرأة فلسطينيين الدمار والفقد، أقاموا عرساً جماعياً في خان يونس، يوم الثلاثاء الماضي، سموه «ثوب الفرح»، في احتفال قلّ نظيره. سار الأزواج – بكبرياء المنتصر – وسط الركام على بساط أحمر يمرون بين أقواس الورود، أثواب العرائس البيضاء مطرزة بالعروق الفلسطينية، العرائس يحملن باقات الزهور، ويُكمِل العرسان ألوان العلم الفلسطيني ببدلات سوداء وربطات عنق حمراء. جمع إنساني مهيب – هو نبت تلك الأرض «سيدة الأرض.. أم البدايات وأم النهايات» فلسطين كما وصفها محمود درويش – تتجاوز دلالاته إشهار الزفاف إلى إشهار الصمود. لم تأت كلمات محمود درويش عبثاً.. حين كتب عن من يستحقون الحياة على أرض تستحق الحياة – كَرِهَهُم من كَرِهَهُم.. خَذَلَهم من خَذَلَهم.. أعان عليهم من أعان عليهم.. وخانهم من خانهم – وكأن كلماته تصف صاحبات الأثواب المطرزة اللواتي يَستقى منهن الكبرياء كل وجدان سَويِّ في هذا العالم.. كل وجدان تسكنه فلسطين كما كل قضية عدل مغتال في عالمنا العربي وغيره.. كما يرتعد من أثوابهن وثباتهن المرجفون.. بأكثر مما يرتعدون من شعب تَجَذَّر في أرضه رغم الحصار والتجويع والقصف والمجزرة العرقية التي سيتوقف التاريخ أمامها طويلاً. تسير الأمور في فلسطين على نحو كلنا يراه..ما اختلف هو ظاهر وتيرة الإبادة ولكن حقيقة الإبادة قائمة في الضفة كمثل غزة وأكثر.. ما اختلف هو بعض من وهج التعاطف والشغف العالمي بمأساة فلسطين وأهلها.. ولكن جذوة الوعي بحقيقة القضية ما زالت مستعرة.. ما اختلف هو مقدار الخزي الفاضح لكل من تواطأ على فلسطين وأهلها.. من بني جلدتنا أو غيرهم.. ولكن مرارة الغل تجاه كل ما هو فلسطيني وعربي، كما بلاهة التماهي والموالاة في كل ما هو إسرائيلي ما زالت قائمة تؤازرها دعاوى البراغماتية، ومخاصمة السرديات الكبرى كالقومية والعروبة والطعن في جدوى المصير المشترك والمصلحة المشتركة. أهل فلسطين العُزل يقاومون بزفرات أنفاسهم، ببقائهم أحياء على أرضهم.. يدافعون – دون تَزَيُّد – عن المستقبل العربي بِرمته، لمن ما زال يعي أن لا مستقبل عربياً في كنف غير عربي، مهما بدا من حلو الكلام عن التعاون الاقتصادي والتحالفات الاستراتيجية والأحلاف الأمنية والعسكرية. تعاون وتحالفات وأحلاف على أرضية لا ترى في أوطاننا أكثر من ركائز وموارد، وشراذم من ورثة حضارة عربية إسلامية كانت وما زالت هي العدو التاريخي والهاجس الذي لا تغيب عنه غلواء الكراهية والرغبة في الكسر والتركيع والاحتواء والإذلال. لمن يستثقلون العروبة.. ويرون أنها سردية تجاوزها الزمن.. ولمن يتطوعون ويُمعِنون في قمع العقل العربي كي يذهل عن حقائق محرماته ومقدساته وأصل حقوقه.. عليهم أن يعلموا أن رغم كل الكلام النحاسي الباهت عن التعاون الافتصادي والأمني بين إسرائيل ودول عربية «واعية حداثية..!» على حساب فصم عرى العروبة.. فإن الأسطورة الإسرائيلية عن «أرض إسرائيل» و«شعب الله المختار» و«مملكة داوود» و«يهودا» و«السامرة» مازالت هي الكذبة التي يُراد لها أن تغدو الحقيقة الوحيدة.. وهي تلك الكذبة التي لن تأتي استحقاقاتها إلا بتوسيع «دولة إسرائيل» لتشمل كل «أرض إسرائيل» التي لن تستثني أحداً في هذا العالم العربي منهك الوجدان. ولنقرأ على صفحة الواقع كل ذلك يجري.. بسلاح ظاهره عربي ومَنطِقُه عربي ينهش الجسد العربي – تبديدا وقتلاً – في السودان وفلسطين وليبيا واليمن وسورية وغيرهم.. سلاح ليس له من عذر أو غطاء أخلاقي مهما تَذَرَع بإرهاب يحارب أو جماعات مارقة يُدَجِّن.. وليس له من مبرر مصلحة، به يشرعن استباحة ثروات وسكينة ودماء وأعراض شعب عربي آخر. سلاح، سياقه الجيواستراتيجي تطبيع مُختَرِق للدول العربية من غير دول المواجهة.. شبكة مصالح مباشرة في العمق الإفريقي.. تسلل استخباراتي وإعلامي في كل العمق العربي.. خلق مناطق فراغ ونزاع، تملؤه وتؤججه ميليشيات مارقة وكيانات مرتزقة عابرة للحدود وبارونات للجريمة المنظمة. مائتا سنة.. هي عمر الصراع مع إسرائيل ومَن وراءها.. صراع ليس جديد فيه الوحشية الإسرائيلية ولا التواطؤ الغربي، ولكن جَديدُه هو صحوة الضمائر الحرة لشعوب الأرض.. وجَديدُه الأقسى هو هرولة إقليمية عربية للاصطفاف مع إسرائيل ضد العروبة فكرة وضرورة ودرب نجاة.. هرولة نحو قتل الإقليم ثم الانتحار أو هكذا أراها. ولكن وبرغم وحشية الصراع قديمه وجديده.. سيبقى على كل بقعة في العالم العربي المنكوب ما يستحق الحياة.. «ما بقي خوف الغزاة من الذكريات وما بقي خوف الطغاة من الأغنيات».. كقول محمود درويش أيضاً. فَكِّرُوا تَصِحُّوا.. الأيام الفلسطينية