خبثاء من يقولون أن المدرسة الجزائرية أنتجت "الحمير" و"الإرهابيين" بعض الصحفيين تحولوا إلى أبواق لمؤسسات اقتصادية وغير اقتصادية في هذا الحديث مع جريدة "الحوار"، يكشف الإعلامي والباحث فوزي سعد الله، عن مساره المهني والأكاديمي وما أنتجه من مؤلفات عديدة اعتمد بعضها للتدريس في أرقى الجامعات الأمريكية، كما يكشف عن ولعه بدراسة التاريخ العثماني واللغة الإسبانية، مقدما رؤيته لواقع المشهد الإعلامي في الجزائر. حاوره: سعيد عز الدين
كيف تعرفون القارئ الجزائري بكم؟ أنا صحفي قبل كل شيء خريج النظام التربوي والجامعي الجزائري مئة بالمئة الذي يقول عنه البعض بنوايا خبيثة في غالب الأحيان إنه يُنتج "الحمير" و"الإرهابيين" دون احترام لعشرات الملايين من الجزائريين الذين تخرجوا من مؤسسات هذا النظام، بمن فيهم الشاتمين… و عندما يبقى لدي متسع من الوقت بعد العمل أحب استغلاله في البحث والتأليف والنشر كمتعة شخصية وكلبنة نضيفها إلى ما بذله مَن سبقونا من جهود، وأيضا في ممارسة الموسيقى بالعزف على القيثارة والعود.
لو تحدثوننا عن مساركم الإعلامي؟ لم أدرس الإعلام والصحافة بل جئت إلى الصحافة بمحض الصدفة، فأنا اقتصادي قبل كل شيء، حيث درست العلوم الاقتصادية وحصلت على شهادة ليسانس في النظرية الاقتصادية قبل أن أواصل تحضير شهادة الماجستير في التحليل الاقتصادي. وبالموازاة مع دراسات الماجستير، سجلتُ في معهد اللغات الأجنبية في بوزريعة في الجزائر وحصلت على شهادة ليسانس في اللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى دراسة اللغة الإسبانية في فترة مَا، لكنني لم أتمكن من متابعة الدروس لفترة طويلة، غير أنني سأعود إليها في يوم من الأيام، لأن هذه اللغة جميلة وبينها وبيننا حميمية وعمومة لغوية وتاريخية منذ أيام الأندلس، ويُشكِّل تعلُّمُها حُلمًا قديما بالنسبة إليَّ، سأتعلمها على الأقل من أجل الاستمتاع بشِعر بَابْلُو نِيرُودَا في لغته الأصلية وليس بنُسخه المُترجَمة، مثلما أتمنى أن يتوفر لي الوقت لأتعلم اللغة التركية والعثمانية. في العام 1989م، بدأت البحث عن عمل في البنوك والمؤسسات الاقتصادية ووزارتيْ المالية والاقتصاد وغيرها… غير أن ذلك لم يكن سهل المنال في فترة مضطربة نسبيا سياسيا واقتصاديا، وكان يُطلَب منك حيثما أردتَ العمل بطاقةَ الخدمة العسكرية… الانفتاح السياسي والإعلامي الذي جاءت به حكومة الإصلاحات برئاسة مولود حمروش، وَفَّر وظائف في الصحافة وجعلني أعثر على عمل كصحفي متعاون في أسبوعية اقتصادية التخصص كان يملكها الزميل والصديق المرحوم الصحفي حميد سْكيفْ، وهي الأسبوعية الناطقة بالفرنسية Perspectives de l économie et du tourisme (آفاق الاقتصاد والسياحة) التي تعاونتُ معها لمدة سنتين. وبعد أشهر، بدأت العمل في الوقت ذاته كصحفي دائم في أسبوعية "البديل" مع مدير يومية "الشعب" الأسبق عمي محمد بوعروج ومجموعة من الذين سيصبحون من أقرب الأصدقاء، أذكر من بينهم محمد فرج الله ومحمد خنوش والشاعر رقيق العواطف النواري قماز ولمين شيخي والرجل الوسيم جدا الذي كنتُ ألقبه ب: ريان أونيل" (Ryan O neil) عمي عبود بوخميس خليل الصحفي السابق في يومية "المجاهد"، وهو فدائي سابق خلال الثورة التحريرية وكان محكوما عليه بالإعدام، وكذلك عمي عمر بودية رحمه الله شقيق المجاهد الثوري الشهيد محمد بودية الذي اغتيل من طرف "الموساد" عام 1973م… تعلمتُ الكثير من هذه التجربة الأولية التي تمكنت خلالها، بعد الاحتكاك والتواصل مهنيا بعدد من شخصياتها ومتابعة المواقف، من أخذ فكرة واقعية عن الطبقة السياسية الجزائرية التي أعتبرها بشكل عام ضعيفة وغير كفأة، بغض النظر عن بعض الاستثناءات الممتازة، وأنا أتحدث هنا بشكل خاص عن الطبقة التي فُرضتْ علينا فرضا بعد الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1992م، لأن الكفاءات خارج المشهد السياسي والرسمي موجودة وكثيرة. هكذا كانت الانطلاقة المهنية، بعدها اشتغلتُ ما بين سنتيْ 1993م/1994م في يوميات على غرار أسبوعية "الحدث" مع حميدة العياشي، وتعرفت في هذه الأسبوعية بالصديق والزميل الصحفي اللامع والذكي بشكل خاص المرحوم زايدي سقية، وعملتُ في أسبوعية "العالم المعاصر" مع سليم صالحي وعلي سلمان ثم في نسختها اليومية لاحقا "العالم السياسي" سنة 1998م. غير أن التجربة الأهم في تلك السنوات المضطربة وعالية المخاطر من تسعينيات القرن الماضي، جرت في أسبوعية "الحرية" عاميْ 1995 /1996م والتي تخللها بعض التعاون مع أسبوعية La Nation الناطقة بالفرنسية. وفيما كانت بعض مقالاتي و روبورتاجاتي الموقَّعة باسم مستعار "رياض أمين" يُعاد نشرها آنذاك في بارس في مجلة Le Courrier international، تم حجز أعداد من "الحرية" بسبب بعض مواضيعي عن أساليب القتل والاغتيال السياسي عبر التاريخ في الجزائر، على سبيل المثال، وبسبب الإصرار على مواصلة – على ما أعتقد- الدعوة إلى المصالحة الوطنية ووقف القتل والقتل المضاد في فترة لم تكن فيها المصالحة على جدول أعمال السلطة، كما لم تكن موضة في الوسط الإعلامي، لأن الموضة حينذاك كانت الدعوة إلى الفتنة والاقتتال… وأعتقد أن نشر أوّل كُتُبي "يهود الجزائر، هؤلاء المجهولون" في ربيع 1996م الذي كان صادما نسبيا لبعض الأذهان بمحتواه الجديد آنذاك زاد في تعقيد الأمور… كانت فترة صعبة وخطيرة…على الجميع… وكانت الآفاق شديدة الغموض…والنتيجة أنني أُبعِدتُ من الصحافة بإجباري على أداء الخدمة العسكرية فورا… بعدها عدت إلى الصحافة عام 1998م حيث اشتغلت بضعة أسابيع في "الأصيل" التي لم أكن مرتاحا في أجوائها فشاركت في تأسيس يومية "اليوم"، ثم انتقلت إلى "الخبر الأسبوعي" لأكثر من عام، وكانت هذه الأخيرة آخر تجاربي الإعلامية الجزائرية، واقتنعتُ في هذه الصحيفة بأنني كنت أضيِّع وقتي ومستقبلي في الجزائر، حينها قررت التحليق في آفاق أوسع، فتركتُ البلاد مُكرَها… أنا اليوم أعمل لمؤسسة تلفزيونية أوروبية بعد تجارب في عدة مؤسسات وصحف عربية، أذكر منها، في باريس، "الحدث العربي والدولي" و"سينما" المتخصصة في النقد السينمائي، و"البيان" الإماراتية، وكمراسل لمدة عاميْن ل: "القدس العربي" من باريس… فضلا عن تجربة قصيرة في قناة تلفزيون "فرانس 24" قبل استقالتي منها بعد بضعة أشهر، وتجربتي الثرية مهنيا، فقط، في إذاعة مونت كارلو الدولية، وأيضا في إذاعة الشرق في باريس أيضا… كل ذلك تم دون أن أتوقف عن البحث والتأليف، حيث نشرت عدة كتب من بينها "يهود الجزائر موعد الرحيل"، "قصبة الجزائر، الذاكرة، الحاضر والخواطر"، ثم "يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب" الذي أصبح يُدرَّس في جامعات أمريكية، فيما رفضته لجنة القراءة في وزارة الثقافة عام 2007م.
ما هي قراءتكم لواقع المشهد الإعلامي في الجزائر ؟ بشكل عام، المشهد الإعلامي في الجزائر في انحدار شديد ومؤسف. وأعتقد أن هذا التدهور مرغوب إلى حد ما من طرف الذين أوصلونا إليه. الكفاءات الإعلامية موجودة، لكن ظروف العمل مُحبِطة ولا تشجع الكفاءة بل تُثمِّن الرداءة وتوسِّع رقعتها.المسؤولية يتقاسمها الصحفيون الراضون بهذه الأوضاع، لكن السلطات تبقى المسؤولة الأولى عن هذا الوضع الذي تعرف كل تفاصيله بحذافيرها وتتركه على حاله منذ تسعينيات القرن الماضي، مثلا: مَن لا يعلم بوجود صحف توظِّف الصحفيين ب: "الأسوَد" كما يقال، أيْ دون احترام القانون وحقوق العمال، مَن لا يَعرف أن الصحفي لا يُحترَم لا في مؤسسته ولا خارجها؟ ومَن لا يعرف أن الفساد تسلل إلى الإعلام وحوَّل صحفيين إلى أبواق مؤسسات اقتصادية وغير اقتصادية؟ ومَن لا يَعرف أن صحفيين ينقلون حرفيا مقالات لغيرهم داخل وخارج الجزائر ويوقعونها باسمهم دون أن تكون تبعات لذلك…؟ لكن دار لقمان على حالها منذ عقود ولا مؤشرات في الأفق تدل على تغيير أو إصلاح قادم. هذه الأوضاع تؤدي بالضرورة إلى هروب الكفاءات خارج البلاد. صحفيونا اليوم ناجحون ويلمعون في كل بقاع الأرض إلا في بلدهم…
في اعتقادكم ماذا أضافت القنوات الفضائية للمشهد الإعلامي في الجزائر؟ القنوات التلفزيونية الجزائرية التي تمكنتُ من متابعة بعض برامجها ضعيفة، بشكل عام، وغير مسؤولة أخلاقيا ومهنيا وترتكب الكثير من الأخطاء الفادحة المهنية والأخلاقية… ولم أسمع عن محاسبتها عن انزلاقاتها غير المهنية من طرف السلطات الوصية. السلطات مسؤولة عن هذه الأوضاع، ونحن بحاجة إلى المراقبة والضبط لتفادي الفوضى والأضرار الناتجة عنها في فائدة القنوات الإعلامية وصحفييها والدولة الجزائرية بشكل عام. هناك مقاييس يجب أن يُفرَض احترامُها، ويجب الكف عن المحاباة على أساس الولاء السياسي، لأن هذا ما خرَّب المشهد الإعلامي منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وخرب كل البلاد… أتذكَّر أنني طلبتُ مع مجموعة من الزملاء والأصدقاء رخصة لتأسيس صحيفة أسبوعية عام 1994م. الرخصة أبت أن تأتي رغم أن مهلتها القانونية لا تتجاوز 21 يوما، وعندما تخلينا عن المشروع جاءت بعد 18 شهرا…كان الأوان قد فات وظروف الشركاء تغيرت…
أعتبره ضعيفا، كما أن حرية الإعلام لا يجب أن تكون حرية السب والقذف والنيل من أعراض الناس، يجب العودة إلى صحافة مهنية متخلقة تحترم نفسها وتحترم غيرها خلال أداء عملها، لكن في حقيقة الأمر الأشياء مرتبطة ببعضها وحال الإعلام نتيجة لحال البلاد وانسداد الآفاق السياسة. الجزائر بحاجة إلى إصلاحات فورية وعميقة تُحدث قطيعة مع كل التراكمات التي أنتجتها عشرية 1990م. يجب العودة إلى بناء الدولة والكف عن إدارة الأزمة وتداعياتها التي تكبر ككرة الثلج سنةً بعد أخرى، ولا يمكن الاستمرار على هذا النهج، وإلا فإننا متوجهون نحو الانفجار، لا سيما في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية. وباعتقادي، في حال حدوثه، لن يكون انفجارا كذلك الذي عرفناه في سنوات 1990م بل سيكون أسوأ بكثير ومهددا لوجود هذاالبلد وهذا الشعب سيء الحظ.
كيف تقرأ نجاح الإعلاميين الجزائريين في الخارج؟ نجاح الإعلاميين في الخارج ليس معجزة بل هو ظاهرة موضوعية مرتبطة بتوفير الأجواء والإمكانيات الضرورية للعمل. تجربتي الصحفية خارج الجزائر واحتكاكي بالصحفيين العرب والأوروبيين والأمريكيين والروس والأستراليين وغيرهم علمتني أن ذلك الصحفي الجزائري المُحبط في مكاتب مؤسساتنا الإعلامية في الجزائر والساخط على ظروف عمله الذي يُطلب منه الكثير من طرف مسؤوليه مقابل أجر لا يكفي لسد الحد الأدنى من احتياجاته لديه ما يكفي من الكفاءة والتكوين الجامعي، مهما قيل عن هذا التكوين، ليكون كغيره من صحفيي العالم أو أحسن، والذين اشتغلوا في مؤسسات إعلامية خارج البلاد يعلمون ذلك جيدا. هل يُعقَل أن يُضطَر الصحفي في الجزائر ليبيع السجائر على قارعة الطريق بعد انتهاء يوم عمله في الجريدة؟ هل يُعقل أن يضطر بسبب ضيق العيش لأن يُصبح صحفيا في النهار وبائع مواد غذائية ليلا للاكتفاء ماليا؟ وأنا لا أتخيل أشياء بل أتحدث عن حقائق وزملاء أعرفهم شخصيا…. إذا كانت هناك ثمة إرادة في إصلاح الوضع، يجب أن تضع السلطات حدا لهذه الفضائح وهذه المآسي التي كثيرا ما تضع الصحفي في حالة القابل للانبطاح وبيع ذمته لمَن هب ودب على حساب هذه المهنة، وهذه المسؤولية الكبيرة والخطيرة أمام المجتمع والدولة.