كان يوما أكتوبريا حارا ومشمسا بإحدى ضواحي العاصمة الشرقية على رواية ''فافا'' .. تسارعت الأحداث بسرعة رهيبة، جعلتنا ونحن نلتحق بمقاعد الدراسة في الابتدائية يوما بعد ذلك نستمع إلى مئات القصص، محورها ''راهي ناضت'' و''الطموس'' الحمراء وسوق الفلاح، بل شكلت اللازمة التي كانت توشح تدخلات كل برعم، توشيح مفدي زكريا لقصائد إلياذته. إنها سنة 88 .. سنة التحول .. سنة المنعطف بعيدا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وأشياء أخرى .. لم نكن نفقه فيها كل ما سبق قدر فقهنا للعب وترديد ما تلوكه ألسنة الكبار في البيوت والمجالس الخاصة، رغم تحذيرات الأولياء وتشديدهم على ضرورة الاهتمام بالدراسة .. لأننا في تلك السن وفي سنة 88 عام ''السيزيام'' وافتكاك تأشيرة الانتقال إلى عالم التعليم المتوسط. في حي يسكنه مواطنون من مختلف التوجهات والأفكار، لا يبعد عن مبنى سوق الفلاح إلا بعشرات الأمتار، رأينا فيه لأول مرة قبل ثلاث سنوات أو أقل أسلحة الكلاشنكوف، -بعد أن كنا نراها في الاستعراضات العسكرية في المناسبات الوطنية، على شاشة التلفاز-، لما جاء رجال الأمن باللباس المدني مدججين بالأسلحة لاعتقال مشتبه بتورطه مع جماعة بويعلي آنذاك، ليطلق سراحه بعد أن تبين لهم غير ذلك، وصنف الأمر في خانة تشابه الأسماء لا غير. بعد ذلك أو حينها بدأت تتسرب إلى المدرسة أفكار من قبيل عدم جواز تحية العلم، ونبذ ترديد النشيد الوطني، وان التاريخ المدرس لنا مزيف، وأن النظام ''أو الدولة بمصطلح تلك الأيام'' في الجزائر ''حقار''، وأن فلانا أحمر والآخر دولة، وثالث ''زفاف''، لنلتقي لاحقا في طوابير غير متناهية في سوق الفلاح بشكل دوري ويومي انتظارا للقهوة أو الزيت أو السكر، بعد أن عثنا فسادا في ''كراطن البنان''، ونتبادل النكت حول رئيس الجمهورية آنذاك ''الشاذلي بن جديد''، والمرحوم ''شريف مساعديه''، ولا نتوقف عن ذلك إلا إذا رافقنا أحد زملائنا في الدراسة ابن لمحافظ شرطة، خوفا من أن يشي بنا لوالده ويرمي بنا في غياهب السجن، تصديقا لتحذيرات أوليائنا، ومرات أُخر نستحلفه بالله أن لا يخبر والده ونشركه في حديث النكت، نكت من وحي خيالنا الذي لا تتعدى جغرافيته الخارجية فرنسا وتونس والمغرب وأمريكا معتقدين أن لكل بلاد ''شاذليها'' الخاص بها، وكأن اسم الشاذلي مرادف لمصطلح رئيس جمهورية. كان أربعاء على ما أذكر، لم ندرس صبيحة ذلك اليوم، حيث طلب منا معلمونا العودة إلى منازلنا، وسط ''وشوشات'' الكبار التي ما كدنا نفك طلاسمها، حتى انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم، من أنها ''راهي ناضت'' في باب الوادي وباش جراح والحراش، ليتوجه جمع من الشباب العاطل والعامل نحو سوق الفلاح مصممين على الاقتداء بسنة أهالي باب الوادي، وتضامنا مع إضراب واحتجاجات عمال المنطقة الصناعية برويبة، -للأمانة التاريخية لم نكن حينها على دراية بمدلول كلمة ''إضراب'' أو ''لا قريف''، إلى ما بعد دستور 98-. ونحن كأطفال قاد الكثير منا الفضول للتفرج على المشهد، كل استعمل حيلته للإفلات من رقابة الأهل والأولياء .. الساعة تشير إلى الواحدة ظهرا أو بعدها بقليل، كل المحاولات باءت بالفشل لكسر الباب الرئيسي للمبنى، حتى اهتدى احدهم إلى حيلة بإضرام النار في دراجة نارية من نوع ''طموس'' حمراء لينطلق بها ويتركها تخترق الباب الرئيسي بسهولة، تحت أصوات ''الكفريات'' ليبدأ مسلسل السلب والنهب. واحد يحمل الأرائك، وآخر يستولي على أجهزة التلفاز والمذياع، حتى الملاعق والسكاكين المطبخية لم تسلم من ثورة الشباب يوم ذاك، وفي هذا الخضم كان صوت جهوري مصدره المشتبه فيه السابق ذكره، وهو ينادي بأعلى صوته من أراد ''اللوبيا والعدس'' فليذهب إلى المخزن الذي كتب في أعلى بابه ''من أجل حياة أفضل''، ولا تمر ساعتان أو أكثر حتى أصبح المكان قاعا صفصفا. وبسرعة متناهية بعد يوم أو يومين حتى انطلقت مسيرة حاشدة جابت أحياء وطرقات المدينة، أدهشني أن قادتها ومؤطريها ناهبو الأدوات الكهرومنزلية والمطبخية ومبتكري فكرة ''الطموس''، وهم يصيحون ''تحيا الشاذلي''، ''جيش شعب معاك يا الشاذلي''، وبعض الأناشيد الوطنية، بعد أن قاموا بحملة لتنظيف ما اقترفته أيديهم .. وللحديث بقية.