إذا عادت الأيام ذوات السمات، والغرر والشيات، في تاريخ الجزائر فسيكون هذا اليوم أوضحها سمة وأطولها غرة واثبتها تمجيدا، فاعجبوا لتصاريف الاقدار فلقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين، ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح ويسيل العبرات، كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا، وبما أضعنا بما كسبت ايدينا من ميراث أسلافنا، فلا نملك إلا الحوقلة والاسترجاع، ثم نرجع الى مطالبات قولية هي كل ما نملك في ذلك الوقت، ولكنها نبهت الأذهان، وسجلت الاغتصاب وبذرت بذور الثورة في النفوس حتى تكلمت البنادق. قد يبغي الوحش على الوحش فلا يكون غريبا، لأن البغي مما ركب في غرائزه، وقد يبغي الانسان على الانسان فلا يكون ذلك عجيبا لأن في الانسان عرقا نزاعا الى الحيوانية وشيطانا نزاغا بالظلم وطبعا من الجبلة الأولى ميالا الى الشر، ولكن العجيب الغريب معا، والمؤلم المحزن معا، أن يبغي دين عيسى روح الله وكلمته على دين محمد (ص) الذي بشر به عيسى روح الله وكلمته. إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليها المسجد في الاسلام ووظائفه التي كان يؤديها من اقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروس العلم النافعة على اختلاف انواعها، من دينية ودنيوية فإن المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة. إن الله ذم قوما فقال: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها إسمه}. ومدح قوما فقال: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وأتى الزكاة، ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}. يامعشر الجزائريين: إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم : (إن الشيطان قد يئس ان يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك)، فهو قد خرج من ارضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها. يا معشر الجزائريين، إن الثورة قد تركت في جسم أمتكم ندوبا لا تندمل إلا بعد عشرات السنين وتركت عشرات الآلاف من اليتامى والأيامى والمشوهين الذين فقدوا العائل والكافل وآلة العمل فاشملوهم بالرعاية حتى ينسى اليتيم مرارة اليتم، و تنسى الأيم حرارة الثكل، وينسى المشوه أنه عالة عليكم، وامسحوا على أحزانهم بيد العطف والحنان فإنهم أبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم. إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديما ولا حديثا، وحزتم من اعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا ان يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة او تقضوا على هذه السمعة العطرة. إن حكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز اسابيع، فأعينوها بقوة، وانصحوها في ما يجب النصح فيه بالتي هي احسن، ولا تقطعوا اوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم الى الاصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلا. وفقكم الله جميعا، وأجرى الخير على ايديكم جميعا، وجمع ايديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين على البر والتقوى غير متعاونين على الإثم والعدوان. قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا).