المتتبّع لمسار التحولات السياسية والاقتصادية التي ترسم خارطة العالم وتعدلها حسب معطياتها، لا يمكنه أن يغفل قرارات تاريخية، شكلت تكملة لمكاسب ثورة أول نوفمبر، صنفت ضمن الثورات الأربع الكبرى في العالم، ومنعطفا هاما في تعزيز ودعم الاستقلال السياسي والاقتصادي للبلاد، ومن ضمن هذه القرارات تأتي الذكرى ال52 لتأميم المحروقات في ال24 فبراير 1971 واسترجاع السيادة الوطنية على الموارد والثروات الوطنيّة، والتأسيس لنقطة البدء في بناء اقتصاد ما بعد الاستقلال بهدف استراتيجي يقوده طموح سياسي نحو تحقيق الاستقلال الطاقوي للجزائر، وتمكين «سونطراك» من أن تتقدّم وطنيا ودوليا كفاعل اقتصادي، يدعّم ويعزّز مكانة الاقتصاد الوطني في مجال المحروقات والمنتجات النفطية وتحقيق العائد الاقتصادي الذي سيساهم في تحقيق التنمية الشاملة. مع كل ذكرى سنوية لحدث تأميم المحروقات، وبسط سلطة الدولة الجزائرية على مواردها الطبيعية والطاقوية، يتجدّد النقاش السياسي والاقتصادي حول الرهانات الإستراتيجية ذات العلاقة بتنويع الاقتصاد الوطني والتحرّر من الاقتصاد المرتكز على عائدات النفط والغاز، الذي يجعل الاعتمادات والمخصّصات المالية مرهونة بمؤشرات غير مضمونة، تخضع لتقلبات السوق الدولية وتجاذبات السياسة الدولية التي تعيد إلى الأذهان الآثار والنتائج العميقة لانهيار أسعار البترول على مستويات التنمية المختلفة، وانعكاسها على المشاريع الوطنية بما في ذلك الاختلالات الاجتماعية التي تلامس التغيّر الحاصل في انخفاض أسعار البترول، حيث تجعل الحكومة أمام خيارات محدودة ومراجعة محتومة للاعتمادات المالية التي تبنى على أساس سعر مرجعي لبرميل البترول الواحد. إرادة سياسية فاعلة في هذا الصدد، يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، الدكتور رشيد بلقرع، أن تنويع الاقتصاد والاستثمار خارج قطاع المحروقات، ضرورة وليس خياراً، وأن الاستمرار في الاعتماد شبه الكلي على اقتصاد الريع البترولي، تهديد للاستقرار الاقتصادي للبلاد، مضيفا أن الاقتصاد الجزائري ما يزال تحت وطأة بعض الاختلالات الهيكلية، مما يطرح أمام الحكومة تحديا حقيقيا في مجال الجدية والصرامة في محاربة الذهنيات البيروقراطية، مؤكدا على وجود إرادة سياسية فاعلة وتجييش لمقدرات الدولة التنظيمية والبشرية والرقابية، من أجل ضمان مناخ أعمال يليق بحجم الطموحات الاقتصادية والأهداف المسطّرة. وأوضح الدكتور بلقرع، أن توجّه الدولة الحالي نحو تنويع الشراكات الاقتصادية في مسار ينصبّ على التحرّر الاقتصادي وبناء الأمن الاقتصادي، يكون قد أفضى إلى نتائج متقدّمة على مستوى المؤشرات الاقتصادية التي مكّنت من رفع الوصاية الأجنبية على الاقتصاد الوطني ومدّ جسور التجارة البترولية نحو فضاءات حيوية وشركاء جدد، من خلال اتفاقيات الطاقة المبرمة مع كل من الشريك الإيطالي وتعزيز التعاون الروسي في هذا المجال، ما يؤكد التوجّه الجزائري نحو الفضاءات الدولية طبقا لمصلحة اقتصادها الوطني. المصلحة الوطنية..أولوية.. إن التوجّه الوطني، يقول الدكتور بلقرع، نحو تنويع الصادرات خارج قطاع المحروقات، وتصحيح الاختلال الهيكلي للاقتصاد الوطني، وبناء التوجّه الدولي طبقا لمقتضيات المصلحة الوطنية، كان وراء ترشيد وعقلنة الخيارات الواقعية الكبرى لمسألة التنمية الشاملة وتحرير القرار الاقتصادي من التبعية، كما أن النسب المحقّقة في هذا المجال، التي تعدت 7 ملايير دولار نسبة الصادرات خارج قطاع المحروقات. بالإضافة إلى السياسات الوطنية في مجال الأمن والانتقال الطاقوي التي تجسّدت في تخصيص وزارة ومركز بحث خاص بالانتقال الطاقوي، وارتفاع القدرات الإنتاجية السنوية لمصفاة الجزائر التي دخلت وحدات إنتاجها حيز الخدمة يوم الاثنين 24 فبراير 2020، لتصل إلى 3.645 مليون طن مقابل 2.7 مليون طن سنة 2019، ورهان الطاقات النظيفة والمتجدّدة وعلى رأسها الطاقة الشمسية. كل هذه الإجراءات والسياسات والمشاريع الوطنية الطموحة تبقى نتيجة، وبشكل عضوي، للإرادة السياسية الفاعلة والحقيقية التي تجسّدت جليا في القرارات الجريئة التي يتخذها في كل مرة رئيس الجمهورية، لإنقاذ مختلف المشاريع الاستثمارية والاستراتيجيات الاقتصادية من الوقوع في أزمات انسداد. تعزيز الأجهزة الرقابية لحماية المكاسب ويرى المتحدث، أن منطق السياسة الرشيدة والعقلانية الاقتصادية، يجعل من التنمية الشاملة والأمن المجتمعي والاستقرار السياسي وتحقيق التنمية المستدامة بشكل عام، ضمانا لرفاهية المواطن، مما يفرض على السلطات العمومية السير بشجاعة كاملة، تدعمها في ذلك إرادة سياسية تنفذ من المستوى الوطني إلى داخل الجماعات المحلية، وذلك من خلال تعزيز الأجهزة الرقابية والوسائل التنظيمية والمادية والبشرية نحو النهوض بالاقتصاد الوطني وجعل سنة 2023 سنة اقتصادية بامتياز يلمس فيها المواطن الجزائري نتائج السياسات الاقتصادية وآثارها على الاقتصاد الوطني والقرار الاقتصادي المستقل وحركية حقيقية، فيما يخصّ تنويع مصادر الدخل الوطني التدريجي خارج قطاع المحروقات توازيا مع التشديد على انحسار الممارسات البيروقراطية، حيث إن منطق الاقتصاد السياسي يشير إلى أن معضلة الإصلاح السياسي والاستقلال الاقتصادي ومسائل النمو والتضخم والبطالة، مرتبطة بقضية أساسية تتمثل في التنمية، التي تؤدي إلى نمو اقتصادي، ما يتطلّب من صناع القرار و»الخبير» الاقتصادي الشجاعة التنظيمية الكاملة والكافية لمكافحة الفساد والعبث بمقدرات الاقتصاد الوطني.